الاعلام الرقمي ينتصر لإسراء غريب: عصمت الموسوي
كان يمكن لقضية اسراء غريَب ان تطوى كما طويت مئات من الجرائم الإنسانية المرتكبة بحق النساء في العالم العربي وتحت مزاعم وأسباب شتى ،الا ان عنصرا جديدا دخل على الخط هذه المرة فقلب المعادلة واحدث خللا وتصدعا  في الرواية الرسمية المتداولة ونسف سردية الاهل الواهية والمتناقضة عن أسباب موتها فعادت حكاية اسراء الى الواجهة بعد شهر من دفنها ، فبعد ان تصدر اسمها مواقع التواصل الاجتماعي وحظي وسم هاشتاك " كلنا اسراء غريب "  بالمتفاعلين من كافة الشرائح المجتمعية ، والذين امطروا الفضاء الالكتروني بمشاركاتهم وتعليقاتهم على مدى شهر ، أجبرت النيابة العامة الفلسطينية على إعادة فتح التحقيق ومكاشفة الجمهور بالحقيقة ، واسراء هي شابة فلسطينية جامعية من بيت ساحور تعمل اختصاصية تجميل صالون نسائي ، تعرفت على شاب تقدم لخطبتها فخرجت معه في مكان عام بمعية شقيقته ونشرت مقطع فيديو على الإنستغرام او على السناب شات يوثق الحدث ،الا ان ابنة عمها وشت عليها لدى أهلها واخوانها متهمة إياها بالتهور الأخلاقي وتشويه اسم العائلة فتطورت القصة لاحقا ، وتعرضت المغدورة الى عنف جسدي ونفسي ما تسبب في وفاتها .
قد كان الاعلام البديل الأسرع انتشارا وسرعة وتوثيقا هو العين الراصدة للحدث منذ بداياته، اذ تبادل المغردون على وسائل التواصل الاجتماعي بعد دفنها مباشرة أفلام فيديو تتضمن صراخ اسراء واستغاثاتها فأثاروا المجتمع الفلسطيني والعربي والعالمي، فخرجت عدة تظاهرات نسائية للتنديد بالواقعة وانبرت الأقلام والصحافة الالكترونية ونشطاء المجتمع المدني التقدمي للدفاع عن اسراء وعن كل النساء المتضررات من العنف الاسري وما يسمى بجرائم الشرف.
صحافة الفيديو قامت بدور جبار ومؤثر، اذ مارس المغردون وأصحاب اليوتيوب بشكل سافر حيثيات القضية وتبنوها وانحازوا الى اسراء بشكل مطلق معتبرين انها وقعت ضحية كذب وتدليس وخداع للرأي العام، ونتيجة اهمال ونقص تحر من قبل جهات عديدة رسمية وعائلية، فكيف لفتاة تدخل المستشفى بإصابات متفرقة في وجهها وجسدها وكسر في عمودها الفقري وتخرج منه، ثم تعود اليه بعد أيام وهي جثة هامدة وتدفن بهدوء وصمت دون تحقيق طبي وأمني؟
قام عشرات من أصحاب الحسابات الالكترونية على اختلافها  بنشر وبث المقابلات التي أجريت مع الاهل واعملوا فيها تشريحا ونقدا وتحليلا فتبين منها تهافت الرواية المتداولة وتناقض الاقوال وتداعي الأدلة ،لقد وضع الاعلام الرقمي عائلة غريب في مأزق حقيقي فأقاموا المحاكمات ضدهم واستدعوا الشهود مستعينين بالأدوات والتقنيات الالكترونية ، وكشفوا التضليل وانعدام المسؤولية المهنية والأخلاقية في جوانب عديدة ، خرجت قضية اسراء من فضاء البيت الاسري الضيق الذي حاول التكتم عليها واسدال الستار على قتلها المتعمد - كما جاء في تقرير النيابة العامة -  لتنتشر الحكاية عبر العالم وتصبح قضية رأي عام وينجلي ما سمي بلغز الوفاة الغامضة للمغدورة ، عن قتل متعمد ووحشي وواضح وضوح الشمس وتكتنفه التفاصيل المضللة ،ولقد  كان بالإمكان انقاذ اسراء من كل هذا البطش لو ان أحدا استجاب سريعا لفيديو صراخها قبل لا بعد مقتلها .
من ارض فلسطين المحتلة تأتي حكاية ظلم أهلها لأنفسهم ،هذه المرة " بيدي لا بيد الاحتلال " مذكرة بقول الشاعر العربي طرفة بن العبد " وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ، ولتطرح على بساط البحث والمناقشة مجددا قضية المرأة في العالم العربي وموقعها على خارطة الحقوق والحريات والتمكين ومدى جدية السلطات الرسمية والأهلية في مكافحة كل اشكال التمييز والعنف ضدها ، والمعروف ان فلسطين تأتي في المرتبة الثانية بعد الأردن في حصد أرواح النساء على خلفية العنف الاسري اوما يسمى بقتل الشرف الذي يحصل بمقتضاه القتلة على اوسمة الشرف المجتمعي واحكام قضائية مخففة تشجع على تكرار الفعل المرة تلو الأخرى الامر الذي يستدعي مساءلة المنظومة المجتمعية والقضائية والأمنية والتعليمية والقانونية برمتها
لقد اثبتت قضية اسراء ان الفكر المتخلف لا يزال سائدا ومسيطرا ومتحكما وله القول الفصل في تحديد مصائر النساء ، وليس التحضر الا قشرة خارجية واهية تتداعى عند اول اختبار حقيقي ، ان تغيير هذه الصورة المأساوية لواقع المرأة يبدأ بتغليظ العقوبات الرادعة  وتسمية القتل قتلا أيا تكن أسبابه وتفعيل القوانين غير المفعلة وكشف كل ملفات جرائم ما يسمى بقتل الشرف سابقا ولاحقا ، ومعاقبة القتلة في محاكمات علنية امام مرأى ومسمع الناس كي يكونوا عبرة لغيرهم ، ان عائلة غريب نفسها ضحية لهذا الواقع التراجيدي المؤلم ، اذ تخسر العائلة في غمضة عين شابة صغيرة ومحبوبة من أهلها ومساهمة في دخل عائلتها البسيطة ، تقتل وتعذب وتعالج بالشعوذة ، وأين ؟ في قلب المستشفى الحكومي الذي يفترض ان تنال العلاج فيه، نأمل ان تنال القضية التي هي بيد سلطات الامن والعدالة كل الاهتمام وان تتسم بالشفافية والنزاهة كي لا تكون اسراء مجرد رقم جديد على قوائم ما يسمى بجرائم الشرف والعنف الاسري.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة