صالة التحرير : عصمت الموسوي

تبدو صالة التحرير هادئة هاجعة في الصباح الباكر ، فهذه الصالة التي تجمع اغلب المحررين ومن شتى اقسام الصحيفة في الصحافة الورقية التقليدية فلعل وضعها ، قد تغير الان  هذه الصالة سرعان ما تتحول الى مكان صاخب يعلوه الضجيج عند منتصف النهار بعد عودة المحررين من تغطياتهم اليومية في الوزارات والمؤسسات والشركات والجمعيات والاسواق وغيرها، حيث يلتقون بالبشر ويلتقطون ما استطاعوا من صيد متوفر ومتاح وقابل للنشر والتداول ،وليس يخلو شباكهم احيانا من درر وكنوز او ما اصطلح على تسميته "بالسبق الصحفي" الجدير بمانشيات الصفحة الاولى، ثم تبدأ معاركهم الثانية الاصعب لاحقا ، مالذي ينشر ومالذي يُمنع او يؤجل او يختصر او ربما يختزل  الى المستوى الذي يفقد فيه الخبر كل اهميته ومضمونه و يتحول الى "مرقة بدون لحم " .

واذا جاد الزمان في تلك اللحظة الزمنية بظروف ملائمة ربما وجد الخبر له مكانا بعد ايام حين يبرد ويخفت وهجه ، بيد ان اعظم مصائب الصحافة حين تأتي الاوامر بحظر النشر تماما في موضوع يشكل مادة دسمة للصحافة والرأي العام ،لكن الصحفين لاييأسون ويمنون النفس بأن تجد اخبارهم وتغطياتهم المقموعة النور ذات يوم ، " .

ان  اجمل الاخبار تلك التي لم تنشربعد "  يقول احدهم متحسرا، لكن هذه القصص الخبرية تظل موجودة ومحفوظة ومخزنة في دفاترهم وعلى شاشات حواسيبهم ، يتداولونها ويعلقون عليها في صالة التحرير بين زملائهم ومرؤسييهم  منتظرين يوما تخرج فيه الى الملأ لتعلن عن نفسها دون خوف او خشية ، هذه االمواد تشكل بعضا من ذاكرة الصحفي الغنية وحصيلة جهده ومساعيه واتصالاته وركضه واستنتاجاته ،ولكم وجدتني امام زملاء يمتلئون فرحا وتوهجا بما جنوا من محصول خبري وكسب حلال ومشروع في مهنتهم فإذ بهم في المساء يستسلمون كالمهزومين وقد انطفأ حماسهم وتلاشت رغبتهم في معايشة ومواصلة يوم صحفي آخر جديد لا يشبه ما قبله بعد ان تقرر ارجاء او حذف اخبارهم او مقالاتهم، واحيانا قد يشتغلون على المادة الصحفية عدة يام ويطرزونها ويملأونها بالتفاصيل الجميلة والمثيرة ثم لا تجد لها مكانا الا في اسفل صفحة داخلية ومتوارية ، ورغم النضال اليومي في الصحافة التي اعتدناها لم يحض الصحفيون وقتها بجوائز ومكافآت رسمية كما هو اليوم، كانت جوائزهم تكمن في تمرير اخبارهم وافكارهم بشكل تلقائي حر واعتيادي ، الجوائز حضرت بعد انحدار الصحافة وغياب التعددية والتنوع والتنافس بين الصحف .

لكن في صالة التحرير كان الصحفي بالمقابل يستعيض عن اختفاء خبره او مقاله بالتباهي والتفاخر بين زملائه بتسريب ما في جعبته من اسرار وما توصل اليه من معلومات "خاصة " تصنف في العادة في خانة خارج التسجيل والتدوين "اوف ذا ريكورد" ،او تلك التفاصيل التي احاطت بالخبر والتي لم تجرؤ الصحافة على نشره امتثالا لقواعد النشر البديهية في مجتمعنا  الصغير التي يشتغل كل يوم على المحافظة على مكانة الكبار وسمعتهم.

 هنا في صالة التحرير كنا نقول المسكوت عنه ونتأسى على حجم المفارقات في التغطيات الخبرية ،ونتلذذ ونتضاحك بسماع حكايات ونوادر وطرائف عجيبة تعوضنا عما خسرناه او ما عجزنا عن تقديمه على مائدة القراء،  وقد تنادينا ذات مرة لتأسيس صحيفة داخلية لنشر الممنوع فقط لكن المشروع احبط لاسباب عديدة .

اسرار صالة التحرير التي خفيت عن اعين الناس والقراء نجدها اليوم حاضرة بقوة ومننتشرة في فضاء الانترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي غرف الدردشة ومجموعات الواتس اب والفيس بوك وعلى حسابات ومدونات النشطاء واليوتيوبرز والتوك توك ، زمن يتشارك فيه كل صاحب رأي في الادلاء بدلوه، ويتحول الخبر الصغير المكون من عدة اسطر الى قصة كبيرة ومتشعبة ومليئة بالتفاصيل في خانة التعليقات ،  اذ تفتش وتبحث وتٍتسائل وتضيف وتطرح ما لديها من معلومات صحيحة او مختلقة .

صالة التحرير الالكترونية ذات الاسماء المستعارة اوالحقيقية قد تستبق الخبر الرسمي واخبار مركز الاتصال الهادف الى توحيد مانشيات الصحف ،هنا صالة متحررة ومتنوعة تفوق طاقة التغطية الخبرية احيانا ويصعب السيطرة عليها او رقابتها مهما تشددت القوانين الاعلامية او ازداد الرصد الالكتروني ، صالة التحريرهذه تبث وتنشر وتتشارك في اعلام لم نعتد عليه في صحافتنا الورقية سابقا وراهنا وتنذر بتلاشي عالم ما قبله بالكامل بل وبتداعي وفشل كل منظومة قوانين واجهزة الضبط والرقابة ، ها قد حضر التغيير الذي حلم  به الصحفيون في صالة التحرير القديمة على يد التقنيات الجديدة ، اتذكر كيف خسر بعض زملائنا الصحفيين وظائفهم وطردوا من صحفهم عقابا على جملة او فكرة او خبر عادي وبسيط فقط لانه تجرأ على السائد وتجاوز نطاق المسموح وتطاول على المسكوت عنه ،يالها من مفارقة عجيبة ان يتفوق مواطن عادي اليوم في مدونته وطرحه وفكرته وجرأته على صحافة مؤسسية عتيدة وعريقة تبحر كل يوم كسفينة ضعيفة ومحاصرة ومحدودة المدد والعون باحثة عن صيد هزيل وسط محيط من الاخبار والافكار المتلاطمة اللامتناهية ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة