سينما رياض: عصمت الموسوي
واحدة من ذكرياتي التي لا تنسى مع السينما ،عندما كنت طالبة في جامعة القاهرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كنت انتهز الفرصة المتاحة بين محاضرتين إحداهما في الصباح والثانية في المساء لكي التحق بالأفلام المعروضة في السينمات الصباحية او ما بعد الظهر وقتها ، كانت القاهرة تستضيف بين الفينة والاخرى اسابيع للسينما العالمية من امريكية وفرنسة وايطالية وغيرها ، المناسبة اتاحت لي حضور طيفا واسعا من الافلام الرائعة والمتنوعة التي مثلت في ذلك الوقت اعظم انتاجات السينما الغربية حيث افلام الجوائز و الاوسكارات وعندما كانت السينما في اوج عزها .
ثم بعد اعوام طويلة تكررت الفرصة بالنسبة لي ،ولكن بشكل آخر مع سينما رياض خميس ، فكيف حدث ذلك ؟ وماهي سينما رياض ؟
رياض خميس دخل إلى عالم السينما من باب الاهتمام والتعرف على هذا العالم الساحر ، تلك السينما التي عشقها صغيرا شكلت حياته ومصدر سعادته ورزقه ، بل انه صمم وبنى بيته لاحقا انطلاقا من حبه للسينما ومن رغبته في تخصص مساحة خاصة لها في قلب بيته وبين اسرته وعائلته ، حيث خصص الطابق الاسفل أو الأرضي" السرداب" كما يطلق عليه لانشاء دار سينما صغيرة ذات مدخل خاص ومستقل ،وقد احتوت هذه السينما على كل اقراص الافلام التي جمعها رياض طوال حياته والتي تربو على 5000 فيلم، ان هذه المكتبة السينمائية الجميلة هي ارث رياض وذكرياته وتجاربه مع الافلام ومع رواد سينما رياض من اهله واصدقاءه وزملاء عمله والأهم من ذلك المهتمين والمحتصين بالسينما والذي شكل رياض مرجعا مهما لهم ، يقضي رياض جل وقته في صومعته السينمائية ، ينسى نفسه تماماولا يفيق إلا على وقع التعب او الجوع ، بعد التقاعد صارت هي بيته الأول ، ستتحول هذه المكتبة لاحقا إلى منصة رقمية " انستجرام" باسمه ، يختار ويعرض من خلالها الافلام التي يحرص على انتقاءها . لقد كنت مجرد زائرة لسينما رياض لكني تحولت لاحقا إلى مواظبة أسبوعيا لمشاهدة احدث الافلام فيما اطلقنا عليه سينما رياض .
وفي الندوة التي اقامها رياض في المنبر التقدمي في مطلع شهر فبراير الماضي،اخذنا فيها رياض إلى اجواء سينما الستينات والسبعينات وتقاليدها ونوع افلامها وروادها والقصص والطرائف التي جرت فيها ، تعرف رياض على السينما مذ كان طفلا في السادسة من عمره من خلال سينما بابكو التي كانت وقتها تعرض افلام جيمس بوند ، ثم في الطريق من البيت إلى المدرسة استرعت انتباهه اعلانات الافلام ، اقترب منها ودخل إلى سينما اللولو والحمراء والزبارة والزياني الحمراء والنصر، خصص نصف مصروفه اليومي لارتياد الأفلام المعروضة في ذلك الوقت ، يقول: انه كان يشاهد وقتها ستة افلام يوميا ، انصرف رياض نحو الهواية التي وجد فيها شغفه بل انها شكلت مسيرته الحياتية وتجارته ، خريج مدرسة السينما عبر المعايشة والتجربة ساعدته لغته الانجليزية ومهارته في التعاطي مع الاجهزة الالكترونية والكمبيوتروكل ما تطرحه الاسواق من منتجات تساعده على عمله ، لاحقا سيتعلم رياض فن تفكيك الاجهزة واصلاحها واعادة تركيبها دون الاستعانة بأحد .
مع دخول عصر الفيديو وانتشار موضة تأجير الأفلام غرق رياض في مشاهدة الافلام والقراءة عنها ومتابعة الدوريات والمجلات والوثائقيات حول مستجداتها ، من هنا نشأت لديه فكرة تأسيس سينما في بيته، فاقتنى رياض اول جهاز اسقاط " بروجكتر" ، ساهم ايضا في تأسيس وتركيب واصلاح عدة سينمات منزلية لطالبي هذه الخدمة .
في منتصف السبعيات افتتح اول محل لتأجير الافلام ذات الجودة العالية لخلق سوق مغايرة غير تلك المعتمدة على الافلام الردئية المقرصنة ، لاقت اسطوانات الليزر رواجا فتوسع وانتشر وتعددت الافرع ، بيد ان انتشار افلام" الدي في دي مترادفة مع القرصنة الاكترونية منذ الالفية الجديدة كانت المعول الذي ضرب تجارة تأجير الافلام،اذ اتاح ذلك للمستهلك الحصول على عدة افلام بسعر دينار واحد ، اتجه رياض لاحقا مستفيدا من كل خبراته السابقة للعمل لدى وزارة الإعلام في الرقابة على المصنفات ، صار عاشق السينما رقيبا على الافلام ، يقطع ويمنتج ويكتب تقارير عن الافلام ومحتواها واسباب المنع وفق المعايير المتداولة في تلك الفترة الزمنية ، كان رياض يجول في الأسواق ليرى ان الفيلم الذي تمنعه الجهات الرسمية يباع مقرصنا بدينار واحد في السوق الشعبي ،وهكذا كسدت تجارة الافلام الاصلية واغلق رياض محلاته .
وفي الندوة تطرق رياض إلى بعض الافلام التي احدثت تغييرا في القوانين وساهمت في خلق واقع جديد .مثال على ذلك في كوريا الجنوبية عندما تم عرض فيلم سينمائي يتطرق إلى استغلال الاطفال الصغار جنسيا من قبل المسؤلين و الاساتذه في المدارس الخاصة، انفجر الشارع الكوري و تم فتح تحقيقات و جرت مناقشات بين اعضاء البرلمان الكوري ، فقامت الدولة بسن تشريعات و قوانين لوقف التعدي و محاكمة المتسببين و الجناة بأشد العقوبات .
عن مستقبل السينما تحدث رياض قائلا انها ستكون غرفة او صالة عرض داخل مخ الانسان ، اي بلا شاشة سينما ، والطريق إلى ذلك سيحتاج فقط إلى قطعة صغيرة توضع على الجبين وموصولة بجهاز كمبيوتر متطور ، يختار فيها المشاهد نوع الفيلم والممثلين الذين يرغب في مشاهدتهم بل والنهاية التي يريدها وهو مستلق على سريره ، وثمة علماء ومستثمرون ومغامرون يشتغلون الآن على هذه التقنيات الجديدة المخيفة والتي يصعب تخيلها ، ان تقنيات الذكاء الاصطناعي لن تقتصر على السينما وحدها بل ستشمل كل مناحي الحياة حيث سنعيش ونأكل ونشرب ونسافر ونتبضع ونمارس اللعب والترفيه ونأخذ معنا اصدقاءنا في رحلات على البحر وتقتني منازل فى الغابات وكله في الخيال والوهم ، فأي عالم ينتظرنا ؟
تعليقات
إرسال تعليق