زهراء بُگُم : بقلم عصمت
الموسوي.
نحن لا نكتب ولا نستذكر الا سيٌر أولئك الذين
الهمونا ،واثروا فينا وتركوا بصماتهم على مجرى حياتنا ،والاهم من كل ذلك لم يعيقوا
مسيرتنا الحياتية ....
في السيرة التي قدمتها الدكتورة صفية
البحارنة عن جدتها العراقية زهراء السيد محمود السيد محسن الطبطائي ، (والدة صادق وحسين وتقي وفخرية وبتول البحارنة )اختارت صفية الانطلاق من سيرة الجدة بوصفها حجر اساس في
هذه العائلة الممتدة ، ومنها راحت تستعرض شخوص عائلة " البحارنة " وافرادها
وسيرة المكان حيث العاصمة المنامة وفريق المخارقة وساب المشبر وتضاريسه وطرقاته ومنزل
العائلة ومسجد مؤمن والمناخ الديني والاجتماعي وطقوس المأتم والاعياد والمناسبات
في تلك الفترة الزمنية التي كانت الجدة ومن بعد الحفيدة معاصرة لها وشاهدة عليها
بدأت صفية السيرة بالقرار الذي اتخذته زهراء الزوجة
الثانية للحاج محمد بن مكي البحارنة بمرافقة زوجها الى البحرين على الرغم من
معارضة العائلة التي اعتبرته امرا عجبا " عجبه " بالتعبير العراقي الشائع،
اذ كيف تترك امرأة مسقط راسها وبيت العائلة العريق ومدينة ضاجه بالحياة كمدينة
النجف والتي هي قبلة الناس والسياحة الدينية والعلمية، المدينة التي يختارها
الشيعة في وصاياهم لتكون موثاهم الأخير ، بينما زهراء تقرر خلاف كل ذلك ، هل كان
قرار صائبا ام خاطئا ؟ وهل كان لدى زهراء خيارا بديلا بعد زواجها من الحاج محمد
البحارنة أبو صادق ؟ وهل سيكون لزهراء كل هذا الاسم والصيت والمكانة لو بقيت في
النجف ، وامتثلت لمعارضة اخيها ؟ قبل ان اجيب على هذا السؤال تعالوا نستعرض سيرة
هذه المرأة التي قدمت الى البحرين في الربع الأول من القرن الماضي حاملة اسلوب
حياتها وثقافتها وملابسها ولهجتها العراقية المحببة وعاداتها وقيمها ، وطريقتها في
الخطابة الحسينية فتعلمت واغنت وأضافت ،وبدت لمن يراها من بعيد امرأة حظيظة منحتها
الحياة كل شي ، باستثناء ان الغربة والبعد عن الوطن ظل يسكنها طوال حياتها كما
تقول حفيدتها كاتبة السيرة .
ولقد وجدت ان زهراء استعانت بعدد من الملاذات
الذين اعانوها على غربتها وآنسوا وحشتها واعطوها الطمأنينة النفسية والعزاء والتعويض.
الملاذ الأول: زوجها الذي ثمًن مرافقتها له، هي
الزوجة الثانية العراقية، وهي " الملاية " بنت العائلة، وبنت السادة، الأصغر
سنا، والتي ربما نالت دلالا وحبا اكبر وشفقة اعظم كونها أيضا غريبة، ولكنها ذكية ونبيهة
وطباخة ودكتورة " معالجة " في العرف الشعبي السائد ،و"عالمة "
فقيهة في أمور الدين والدنيا، يوم كان الدين في ذلك الوقت شديد الالتصاق بأمور
الدنيا .
الملاذ الثاني هو الحسين : فهي ابنة السيد محمود
محسن الطباطبائي سليلة عائلة علم ديني شيعي تحديدا وقيادة روحية في عراق القرن
الماضي، ووفقا للسردية الشيعية فأن من تمسك بالحسين ما خاب ابدا ،فالحسين مصدر غنى
مادي واجتماعي ومعنوي وروحي وديني في التراث الشيعي ، والمأتم محور حياة الانسان
الشيعي ،الناس تتسابق لمنحه الهبات والوقفيات، ومن خدمته والقيام بدور الخطابة فيه
اكتسبت زهراء السمعة الطيبة والمكانة الجليلة، زهراء القادمة من بيت قيادة دينية
حملت جزءا كبيرا من هذه القيادة ، فتمتعت بالشخصية القوية المتميزة المختلفة ،التفت
حولها الناس، احبوا لهجتها وعصابتها السوداء التي تربطها على جبينها وطريقتها في
سرد الرواية الحسينية ، ثم جاءت اجادتها للغة الفارسية فصارت ملاية العجم كما كانت
ملاية العرب البحارنة ، ولا يستطيع أي خطيب للمنبر الحسيني او خطيبة ان يشق طريقه
بنجاح ومهارة في هذه المهنة وينال التقدير والحب والاحترام مالم يتصف بالشجاعة والأداء
المتقن والصوت والجاذبية والحفظ والقدرة على حمل الجماهير على البكاء ،ولو سألت أي
شيعي من رواد المآتم عن قارئه او قارئته المفضلة ، لقال انه الخطيب الذي يبكيني ،فكيف
اذا كانت هذه الملاية سيدة وعلوية "حفيدة رسول الله "
الملاذ الثالث الذي استعانت به السيدة زهراء
هو مجلسها الذي ضم الصديقات ودخالات البيت،" بمعنى انها كانت انتقائية الى
حدما في اختيار من يدخل بيتها " ، وهو
كان امتدادا لمجلس التاجر المعروف محمد البحارنة الذي ضم الاعيان والزوار من داخل البحرين
وخارجها والذي نوقشت فيه المسائل الدينية والتجارية والسياسية واستمتع زوراه بأطباق
السيدة زهراء اللذيذة والتي كانت مزيجا من المطبخ البحريني والعراقي والإيراني .
الملاذات التالية : الخياطة ،والتداوي بالمحو
،والسيجارة وقرض الشعر الشعبي ، ورواية القصص والحكايات ،وتقديم الاستشارات
الدينية والحياتية والعلاجية لطالبيها ،وكل هذه الملاذات ربما لم تترك للسيدة
زهراء فراغا كي تفكر في غربتها .
من هذه السيرة تسللت الدكتورة صفية لتروي لنا
بعضا من فصول حياة عائلة البحارنة والمتصاهرين معها،تبدأها بالجد الأكبر الحاج
احمد بن عبدالنبي بن إبراهيم آل يوشع الذي هاجر الى القطيف هربا من الصراعات التي
اندلعت في البحرين في القرن الماضي واستقر في القطيف تاركا بيته الكبير وبساتينه
ونخيله ، ومنذ اليوم الأول اطلق الناس على العائلة لقب البحارنة ، ونٌسي لقب
اليوشع ، ومن السيرة نستنتج ان العائلة عريقة في امتهان التجارة والسفر وحب العلم
والقرب من المرجعيات الدينية ، فلا عجب ان يتقلد صادق البحارنة رئاسة الأوقاف الجعفرية
لفترة ربما تعد الأطول في تاريخ زعامة الأوقاف .
حكاية زهراء جديرة بالتوثيق واعبترها امتدادا
طبيعيا لسيرة المنامة وأهلها وتاريخهم ، ولقد عرفنا أبناء عائلة البحارنة وبناتها
واعتقد انهم كانوا ولا يزالوا انعكاسا لتلك السيرة الجادة الرصينة المحبة للعلم والدين.
ومعروف ان السير النسائية ظلت مغيبة ولم نقرأ
في عالمنا ذو السيطرة الذكورية الا السير الذكورية فقط ، وفي ذلك اغفال وتجاهل
لتاريخ اعتقد جازمة انه سيظل ناقصا بدون النساء ،وارى ان صفية امتلكت الجرأة لنشر
السيرة ونشر صورة جدتها أيضا .
وعن سيرة امهاتنا وجداتنا اللاتي لم يذهبن
الى المدارس والجامعات وربما لم يتوفرن الا على قدر بسيط من العلم كما جاء في سيرة
زهراء ، اود القول : حين نستعرض تاريخهن لا نشير بالطبع الى التعليمي التقليدي المدرسي
ولا الشهادات الاكاديمية التي يمتلكونها ، قارنوا مثلا شهادات الدكتورة صفية الحفيدة
وكاتبة السيرة بمستوى تعليم جدتها زهراء ووالدتها فاطمة ، لا وجه للمقارنة ،الا هؤلاء
الأمهات كنً وعن جدارة مدارس حقيقية في التربية وفي إدارة شئون المنزل والعائلة والتدبر
الاقتصادي بما امتلكن من خبرة تراكمية وموروثة ، ومن حس غريزي صادق وحقيقي غير
مضلل وغير مشوه ، ومن قيم أخلاقية ودينية وتجارب حياتية لا تقل شأنا واهمية عن دراسة
وخبرات أصحاب الشهادات .
والامر الاخر الذي اود الإشارة اليه ،هو
الامر المعتاد بالنسبة للقادمين من بيوت وعائلات كبيرة في البحرين او غيرها وخصوصا
اذا كانت دينية،او يلعب العنصر الديني دورا كبيرا في تكوينها وصيرورتها ، فإننا نرى
ان حجم المحاذير والممنوعات والمحرمات قد يكون أيضا كبيرا ولا يستهان به ما قد يحول
دون الانطلاق والتغيير لاحقا، لكن لا ننسى ان عائلة البحارنة عاشت في مدينة المنامة
التي لا تنام كما يقول د نادر كاظم في كتابه " لا احد ينام في المنامة "
واعتقد ان قوة التغيير كانت جارفة وقوية ،ومن الصعب التصدي لها ،لذلك جاء
التلفزيون الى بيت البحارنة قبل غيرهم ، وذهبت فخرية وبتول بنات زهراء الى المدارس
برغم حرمة تعليم البنات او عدم تقبله في ذلك الوقت (زهراء كان لها دور في اقناع الوالد ) ذلك ان العائلات
التجارية في البحرين لا تستطيع التصدي للتغيير الذي هي جزء منه ،بل انها أي هذه
العائلات هي التي قادت التغيير الاجتماعي والتعليمي وساهمت في بناء المدارس وجلبت
البضائع ومعها الأفكار المختلفة ، وبمعنى اخر حلقت وغامرت وخرجت عن المعتاد والتقليدي
والمألوف ،ولم يكن ابناءها وبناتها واحفادها صورة طبق الأصل عن ابائهم وأمهاتهم ، بل
كانوا أبناء الحياة المتغيرة والمتحولة والمتجددة .
ثم
هناك شيء أخير توقعته ولم اجده في السيرة : وهو علاقة زهراء ام صادق ب فاطمة زوجة
صادق ، فقد عاشت السيدتان معا لمدة 30 عاما معا في بيت واحد ، وكلتاهما كانتا سيدتان
قويتان ، وتنحدران من اسر كبيرة ، وملايات ، وتتمتعان بحضور طاغي ، والاهم تتنافسان
على قلب صادق ،المتوقع ان يحدث نوع من التصادم الطبيعي نظرا لقرب المسافة والعيش
المشترك بين العمة والكنة ، فهل كتمتا الخلاف او تنازلت احداهما للأخرى طوعا أولأسباب
أخرى ،او لان كاتبة السيرة صفية لم ترد الإشارة الى ذلك ، واكتفت بكل ما هو حسن
وطيب وايجابي في هذه العلاقة ؟
واختتم بالإجابة عن السؤال الأول الذي طرحته في
البداية : لماذا اتخذت زهراء
قرارا بالمغادرة مع زوجها الى مدينة لا
تعرفها وعارضت أهلها ، اعتقد ان زهراء رأت ان الوطن هو حيث يقيم زوجها وحبيبها واب
أولادها ، والغربة هي في العيش بعيدة عنه ، هذا أولا ، وثانيا ، وربما تكون قد
ادركت بحسها الفطري وذكاءها انها ستشكل إضافة نوعية في المكان الجديد الذي سترحل
اليه ، فقد يكون في النجف سيدات كثر على
شاكلة زهراء ، اما في البحرين فقد كانت زهراء بُگُم السيدة النجفية
استثنائية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، عاشت وماتت ولم تبارح سيرتها ذاكرة من
عاصروها ،بالتالي لم يكن قرارها عجيبا او عجبه .
تعليقات
إرسال تعليق