دولة ام عدنان : عصمت الموسوي
امتد العمر بأمي -التي تنتمي لعائلة معمرة –
حتى خلت أن الموت لن يصلها ابدا او ربما سأسبقها اليه ،ظلت نتائج الفحوصات الطبية
مطمئنة حتى آخر يوم من عمرها ،اختبرت امي محنا صحية وتحديات اجتماعية عديدة طوال
عمرها وخرجت منها منتصرة ومغالبة للمرض ومتهيأة لحياة أطول ، سيدة العطاء والفرح والبهجة التي رحلت عن دنيانا
امس تربينا وعشنا في كنفها وعرفنا معها أجمل حياة وأمتع صحبة ، وحقيقة لا مجازا ،أنشأت
أمي دولة صغيرة مكونة من 14 ابنا وبنتا و68 حفيدا ،جاءت حفيدة حفيدتها الأخيرة قبل
أسبوع من رحيلها ،الولودة الودودة عاشت حياة حافلة وعامرة وممتلئة ،لم تعرف الفراغ
او الضجر ، كان بيتها الذي وثقت تاريخه وذكرياته شقيقتي الشاعرة فضيلة في ديوانها
الموسوم " بيت بفيء الياسمين " مستلهم من حكاية بيت النعيم الذي كانت أم
عدنان ركنا أساسيا من اركانه ، باريس كما كان والدي يطلق عليها انحدرت من عائلة معروفة
وميسورة الحال ، صارت لاحقا زوجة احد كبار رجال الدين وعلما على علم ، وقد جاءت
سيرتها ضمن كتاب " نسيج العمامة " للكاتب حسين المحروس ،اما الطفولة
والصبا وعادات ذلك العصر وقيمه فقد توثقت في كتاب المرأة البحرينية في القرن
العشرين للكاتبتين فوزية مطر والدكتورة
سبيكة النجار ، سيدة التفاصيل ظلت حاضرة الذهن وذات ذاكرة جبارة يأنس اليها
المؤلفون والصحفيون ، ولقد شعرت بوحدة أمي وضجرها بعد ان انفض السامر وتوفى الزوج
وطار الأبناء الى حياتهم الجديدة وانتقلت امي للعيش بعيدا عن حي النعيم الذي عاشت
فيه وألفته ، وبعد خسارتها لصديقات الحي اللاتي أما غادرن المكان او غادرن الدنيا ،امرأة شديدة البأس وعاشقة للحياة ،لم يهزمها
شيئ في الحياة ، كابدت وصارعت وتفننت في خلق حياة جميلة ومتجددة ومتفانية حولها تقوم
على العطاء واغاثة المحتاج وإقامة الولائم واستقبال الضيوف والاصدقاء .
شيخة بنت حجي إبراهيم الحبيشي، جاءت الى
الدنيا بعد عدة ولادات متعثرة واشقاء وشقيقات يخطفهن الموت باكرا لأسباب غير
معروفة ، كان والدها الطواش قد بلغه نبأ قدوم المولودة الجديدة في زمن الغوص عام
1929 ، إذ حظيت سفن الغوص الخاصة بإبراهيم الحبيشي في ذلك الموسم بصيد وفير من اللؤلؤ
فسميت لولوة ، استشعر والدها من البداية روحها الوقادة وجرأتها وشجاعتها فأخذها
معه الى القنص وعلمها استخدام السلاح ، واوكل اليها إدارة المخزن ومفتاح الخزينة ،
واستبدل اسمها ب شيخة ،تزوجها والدي في الثالثة عشر من عمرها على أثر قصة اعجاب لصبية
سمع عنها ولم يرها ،اذ شب حريق في بيت قارئة القرآن الذي تتعلم فيها امي القراءة صباح
ذات يوم فهرب الجميع وبادرت أمي سريعا الى فك قيد البقرة وسحب الدراجة الهوائية الخاصة
بالسيد محمد صالح إلى خارج البيت، عندما جاء وسأل من الذي أنقذ دراجتي ؟قيل له: شيخة
،اشتعلت حاسته الشعرية ،أنشد فيها شعرا واصر
على مقابلتها ، رتبت له المعلمة لقاء من بعيد مع شيخة فوقع في حبها وذهب حالا الى
خطبتها ، قال لأبيها : " اكتب ما تشاء من الشروط ،اكتبها في ورقة حكومية
معتمدة لكن زوجني ابنتك " اعترض الاهل لأن زوجته السيدة الأولى إبنة عمه هاشمية
من نسل آل الرسول ولا يجوز قهرها او الزواج عليها ، عاود المحاولة المرة تلو
الأخرى إلى أن قبلوا ، نسيت أمي كل تفاصيل
الحدث باستثناء موقف واحد .
ففي اليوم الأول لدخولها بيت الزوجية قالت
لها احدى الزائرات: من تكونين انت امام زوجته الأولى السيدة الجميلة الهاشمية الملاية
بنت العلماء؟
اطرقت أمي ساكته ثم أجابت :أنا بنت الحبيشي ،
شعرت امي منذ تلك اللحظة انها ستدخل في حلبة صراع ومنافسة وان الحياة مع رجل متزوج
ومتعدد الزواج (لاحقا) ستكون دوما مليئة بالتحديات ، انقطعت أمي عن التعليم بعد
الزواج لكنها كانت قد تعلمت الطبخ والتدبير والإدارة المنزلية في بيت الحبيشي واما
الخياطة فقد تلقتها علي يد سيدة يهودية تقيم في أحد احياء المنامة ،خاطت امي ملابسنا وملابس أبناء حينا واخوتنا من
البيت الأول والثاني والثالث ، تبدت مهاراتها الإدارية عندما ادارت بيتنا الكبير في
النعيم ، وحيدة بلا معين ، في بيت يستقبل الضيوف والمسافرين ، إضافة الى أبناء الحي
من المأزومين ، كانت أمي تغيثهم وتؤويهم وتخدمهم كأبنائها الى ان ينصلح حالهم ويعودون
الى أسرهم ،قادت وادارت حملات ما يسمى "بالشراك " ورحلات الصيف الجماعية
حيث يجتمع اهل الحي على زيارة البساتين وحيث يتشاركون في تحصيل المبالغ في بيتها .
امي القادمة من قلب المنامة ارست قواعد وأصول
أهل المنامة في كل شي ، النظام والترتيب والنظافة والبيت العامر بالولائم والذي
تفوح منه رائحة الطبخ الشهي ،اشترى لنا والدي بيتا في النعيم في نفس المكان الذي
التقى فيه أمي ،وهو يعد بيتا كبيرا في معايير ذلك الزمان ، صار لاحقا البيت
المركزي له ولمكتبته الضخمة ولضيوفه ولأهله القادمين من العراق والسعودية والكويت
.
في الليالي التي قضيتها مع أمي أسرت لي ببعض الحكايات
عن حينا القديم، عرفت ان الكثيرين كانوا يستشيرونها سرا وعلانية رجالا ونساء
وشبابا وشابات في امورهن الشخصية والخاصة المستعصية، ترى مالذي وجدوه في أمي ؟
القيادة، الحس الإنساني، التعاطف، العطاء بلا مقابل ،تقديم العلاج النفسي
الاجتماعي والعاطفي التلقائي الذي لم تتعلمه في المدرسة او الجامعة ولم تقرأه في
كتاب ؟ ولقد مارست امي كل تلك الاعمال الخيرية استجابة لطبع اصيل ومتجذر وموروث يقوم
على المبادرة والتضحية والحب انسجاما مع نداء ومحرك داخلي عميق ، تكره الحزن وسيرة
الموت ، لم ترتدي اللون الأسود وخلت خزانتها المرتبة جدا من أي لون اسود ، اذا حضر
الضيوف اشعلت البخور واضاءت الانوار والزينة واطلقت الزغاريد ،يحسب الرائي انه بيت
عرس ، سيدة الاسرار والتفاصيل كما كتبت عنها يوما ذكية ونبيهة قادت حياة جديرة
بالتوثيق وبالتقدير ، كنا نخفي عنها مشاكلنا رحمة بقولونها ،بيد انها كانت تستدرج
احفادها الصغار فتعلم ما اخفيناه ،لم ارها تبكي يوما ،كان والدي اذ يمازحها يصفها بقول
الشاعر أبو فراس الحمداني :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهي
عليك ولا أمر .
اقامت في بيتي العام الماضي فتعلقت بي تعلقا
شديدا وارتبطت بي ووجدت في هذا التعلق متعة وسعادة ، لقد أردت ان استبقيها عندي الى
أن يختارها الله وان اخلق لها جوا ملائما يبدد وحدتها، ويتيح لها التعبير والتواصل
والفرح فيما تبقى من عمرها لكنني فشلت ، أصرت على العودة الى بيتها ، واوصتني :
عصمت لا أريد ان اموت الا في بيتي ، وهكذا كان ...
أربعة عشر ابنا وابنة لكل منهم مكانته الخاصة
المتميزة في نفسها، لكن كورونا حرمها من إبنها الصغير المدلل الدكتور طارق الموسوي
اختصاصي الامراض المعدية الذي اضطر الى البقاء في عمله في السعودية لمدة أربعة اشهر
، ظلت تسالنا كل يوم متى يفتح الجسر ؟ ماتت وفي نفسها شوق وحسرة على حبيبها طارق والذي
عمل المستحيل لعبور الجسر عصر امس وملاقاتها قبل موراتها الثرى، خلوها من " كرونا
" أتاح لكل افراد عائلتها حضور جنازتها المهيبة رغم الحر الشديد والإجراءات الصحية
الصارمة، عائلتها وحدها المكونة من الأبناء والبنات والأزواج والزوجات والأحفاد وأحفاد
الأحفاد وأصدقائهم الدائمين المقربين تشكل بذاتها دولة صغيرة ، دولة ام عدنان كانت
كلها هناك أمام نعشها، فوداعا والى جنة الخلد والسلام يا ام عدنان .
احس انك لم تعطيها حقها مهما كتبتي
ردحذفاحس انك لم تعطيها حقها مهما كتبتي
ردحذف