عصمت الموسوي : جاسم مراد اغنى الصحافة وشجع الصحفيين واحيا الامل في نفوسهم


في ندوة مجلس امير رجب الثقافي : عصمت الموسوي : جاسم مراد اغنى الصحافة وشجع الصحفيين واحيا الامل في نفوسهم
نلتقي في هذه الأمسية، وفي هذا المجلس الثقافي الطيب، بالحاضر الغائب جاسم  مراد، الحاضر بكلماته واسهاماته ومواقفه وعطاءه ، الغائب بجسده فحسب ، احتفاءا وتقديرا واجلالا وصيانة للإرث الجميل الذي تركه ، فقد عرفت جاسم مراد عن قرب وشهدت بعض اداوره وكنت وسيطة في بعضها بحكم موقعي في الصحافة، قد كان جاسم رجلا متعدد الأدوار، لعب أدوارا سياسية واقتصادية وخيرية كبيرة وإيجابية في مجتمع البحرين وفي مراحل مختلفة مذ كان فتى في المراهقة ولغاية الأشهر الأخيرة من مرضه ، وقد رأيناه في بعضها جنديا معلوما وأخرى مجهولا ومؤثرا، وسأسرد لكم في هذه الأمسية كيف وبأي شكل تعاطى الراحل جاسم مراد مع الصحافة البحرينية، وسأكتفي بمساحة معينة مما عرفت وعايشت عن قرب متمنية من زملائي الصحفيين ان ينشروا أيضا تجاربهم مع جاسم مراد .
بداية فقد رأى جاسم في الصحافة معوضا " نسبيا " عن غياب الحياة النيابية في السبعينات والثمانينات والتسعينات، ولرجل حيوي وجريء وشجاع ومبادر وشديد الاندماج بمجتمعه وساع الى الإصلاح والتغيير ك جاسم مراد، فمن الصعب ان تأخذ منه دوره النيابي والسياسي المؤثر وان تطلب منه السكوت المطلق، جاسم أحد القلائل الذين اجتهدوا وحاولوا بكل الطرق توصيل أفكارهم واختراق طوق الجدار الصلب في مرحلة امن الدولة والتي انعكست على الصحافة وعلى كل مناحي الحياة.
فبحكم تاريخه الطويل وخبرته السياسية وعمله التجاري وقراءاته واسفاره واتساع شبكة علاقاته وتواصله مع الناس ومتابعته للصحافة اليومية، ألفى الصحفيون البحرينييون انفسهم امام رجل وطني وسياسي وحكيم بامتياز،  تمتع بحس عال من المسؤولية الاجتماعية تجاه بلده وأبناء شعبه، آمن جاسم بالفكر الإنساني الكوني الليبرالي وبحرية الصحافة وحرية الدين والمعتقد وبحق البشر في الاختلاف ، اعتنق هذه المبادئ  وبشر بها في كل المحافل ، وحارب وتصدى للانغلاق والتطرف والتعصب وتديين السياسة وتسييس الدين ، كان معارضا لتأسيس الجمعيات على أسس دينية او مذهبية وهو اول من نبه الى مخاطرها على الوحدة الوطنية ، رأى في الصحافة وسيلة لتغيير الشعوب وتطويرها وتحديثها وتأهيلها لدخول الانتخابات ولتقبل كل ما هو جديد ، وحسب جاسم فالشعوب غير الواعية لا يعول عليها في إيصال الاكفاء الى البرلمان ، وقد كان صاحب الرأي الأكثر صراحة ما جعل الصحافة تتحسب له وفي الغالب تحذف او تخفف تصريحاته ،ولعلنا نلحظ ان جاسم مراد تجلى في ذروة انفتاح الصحافة البحرينية بعد انطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك ،فشارك بقوة وبكثافة عبر المقالات والندوات والنقد والتحليل ، وكنا نقرأ ل جاسم مراد ربما في يوم واحد في اكثر من صحيفة ، وهكذا استعاد الرجل الوهج الذي عرفه في شبابه واغنى الصحافة بمساهماته الثرية والجريئة ، وقد كان الصحفيون يشعرون في حضرته بالفرح والانتشاء لأنه يمدهم بمادة دسمة وساخنة وقوية وكلام واضح وصريح وملهم ،تفتح الطريق امام ما غلق عليهم ، بعضها للنشر وبعضها خارج النشر (اوف ذا ريكورد ) يقول جاسم " سيأتي وقت هذا الكلام ذات يوم في المستقبل " انه كلام للتاريخ ، وفي الغالب يتحول الصحفيون الى أصدقاء او رواد دائمين في مجلسه او مكتبه ،يلوذون به في المحن وفي أوقات التصحر وجفاف الاخبار والمعلومات ،يستمدون المادة الصحفية والامل في جدوى الاستمرار في هذه المهنة الشائقة ، لكن وللأمانة فإن جاسم قد يسبب الخضة او الصدمة لمن يلتقيه لأول مرة ،بسبب جرأته غير المألوفة في مجتمعنا ، ولان ديدنه القفز على الحواجز والحدود دون ان يلجأ الى الترميز او المجاز او التورية الأدبية اوالأطر الصحفية الصارمة التي تخضع لها صحافتنا
ينطلق جاسم في تعاطيه مع الصحافة كما سبق وقلت من فكر حر يؤمن بالديموقراطية وحرية التعبير والعدالة والمساواة وسيادة القانون وحقوق الانسان وحقوق المرأة ، " نعم انا علماني واعتز بانتسابي الى العقلانية والعلم والتطور والرقي والحضارة " يرد على منتقديه  ، كان يبادر بنفسه ويهاتف الصحفيين ويقترح عليهم المواضيع الجديرة بالكتابة ويصحح ويعدل ويوجه ويشجع ويعقب على اخبارهم ومقالاتهم وتقاريرهم ويضيف اليها ويرفدهم بما لديه من معلومات حول هذه القضية او تلك ، وذلك انطلاقا من تبحره وعمق معلوماته في القضايا والقوانين والتشريعات المحلية والتي يعرف خلفياتها واسرارها وما طرأ عليها من تغيير ، مستعينا بذاكرة حديدية لم تخبو ولم تتراجع مع تقدمه في العمر ، ولا ننسى بالطبع تلك التجربة البرلمانية القصيرة التي عاشها في برلمان 73 وما دار فيه من نقاش وما اقترحه وزملاءه من مشاريع قوانين وتشريعات ، ووفقا لمؤرخي هذه الفترة من عمر المجلس فقد كان جاسم احد المتحدثين الأساسيين فيه والذين اختاروا المنحى الليبرالي في مناقشة القضايا الاجتماعية المتعلقة بالتعليم والصحة وتقديم الخدمات وغيرها ، كما انه قارئ نهم ، يختار ما ينسجم مع فكره المستنير من كتب واطروحات ، وينسخ الصفحات التي يجدها مهمة بالعشرات ويوزعها على زملائه ورواد مجلسه وضيوفه والصحفيين ،لا يترك بيته ولا يزور أحدا الا وهناك عدة مقالات في جيبه، لم يتوقف عن هذه العادة الا عندما حل الانترنت مكان الورق
اذا استحسن قول كاتب بحريني في مقال او حتى ندوة لضيف زائر للبحرين سرعان ما يحاول التعرف عليه ونسج علاقة معه ودعوته الى بيته والتحاور معه ، على سبيل المثال ضيوف مركز الشيخ إبراهيم الثقافي ، وفي الغالب كان يقرأ لهم بعد مغادرتهم فينتابه الندم انه لم يلتق بهم ولم يعلمه احد بوجودهم ، حتى المختلفين معه لا يتخذ منهم مواقف عدائية او مقاطعة ،يعاملهم على نفس القدر مع صحبة أفكاره ، بل ان مجلسه ضم كل أطياف المجتمع البحريني على اختلاف توجهاتهم السياسية ، ذات مرة حضر احد القوميين المصريين البارزين الى البحرين ضيفا على جمعية سياسية ، فدعاه جاسم الى بيته وتناقشا حول المرحلة الناصرية واخطاءها ،وقد اختلف جاسم كثيرا مع هذا الضيف حتى بدا انهما على طرفي نقيض ولن يلتقيا ، علمت لاحقا ان جاسم زاره في الفندق قبل مغادرته البلد وودعه ودفع فاتورته وطلب منه معاودة  الزيارة على ان يقيم معه في بيته ، حين نسمع هذه الحكايات نقول : انه جاسم مراد
يكتب جاسم بخط واضح ولغة سليمة مدعما بالأمثلة والآيات القرآنية والاستشهادات والشعر والادب الذي يعرفه، يقرأ إضافة الى الصحافة المحلية الصحف العربية الكبيرة والرصينة ، يناشد الصحفيين دوما التوجه الى المواضيع الجوهرية ذات البعد الاقتصادي ، الاقتصاد يا سادة يجب ان ينال المساحة الأكبر في صحفكم وليس الرياضة اوالفن او غيره ، الضرائب أتية لا محالة ولكن لا بد وان تترافق مع التمثيل السياسي الذي يتضمن المساءلة والمحاسبة ، ورفع الدعم عن الجميع ليس مساواة ،بل يجب ان يكون هناك دعم للمحتاجين فالدعم لمن يستحقه فقط ،والسكن والعمل والراتب المجزي حقوق دستورية مكفولة للمواطن البحريني ، على الشعوب ان تستعد للأيام العجاف المقبلة " اخشوشنوا فأن النعم لا تدوم " يحذر جاسم دوما من تسويد الصفحات بالمواضيع التافهة بغرض الالهاء وصرف انتباه الشعب عن حقوقه الأساسية ، لا يتوانى ولا يعتذر عن المشاركة في أي ندوة او حوار ايمانا منه ان لديه ما يضيفه، لا يرد أي صحفي سائل في أي شأن محلي ، يراه نوعا من الواجب الوطني والالتزام السياسي ، يحمل تعقيباته معه في ورقة خشية النسيان ، يقول : لا اجيد الارتجال
صفحة بريد القراء يقرأها من منظور مختلف، لأنه في الغالب يساعد المحتاجين من موقعه كرجل مقتدر، في الغالب يأتي طلبة العلم والطلاب المتفوقون وغير القادرين على دفع الرسوم او الالتحاق بالجامعة على سلم أولوياته في المساعدة،
مبدأه الدائم: لا تتشكوا وتتبرموا بل انقلوا شكواكم:
يكتب جاسم عن أي خطأ او خلل او تجاوز يصادفه في طريقه ، سواء كان لجهة تابعة للجهاز الإداري الرسمي او غيره ، وينشره في الصحافة اذا لم يحصل على رد وفق القنوات الطبيعية ، هذه هي الطريقة التي اتبعها دوما وظل يقولها ويكررها ، لا تسكتوا ، ما ضاع حق وراؤه مطالب ،اذهبوا الى المحاكم ، الى أجهزة المظالم ، حماية المستهلك ، الصحافة ، أي جهة تحمل لواء الدفاع والتصدي للخروقات ،فالتشكي لا يفيد بل توصيل المظلومية والإصرار والصبر والجهاد على نيل الحقوق " وهل تؤخذ الدنيا الا غلابا ؟ ، في عز ازمته المرضية واثناء اقامته في قسم العناية المركزة قبل وفاته ،زاره احد الاصدقاء ، فبادره جاسم بالقول " اين وصلت قضيتكم في المحكمة ؟ ثم واصل " لا تستسلموا ولا تستعجلوا
سؤال أخير: هل اثَر جاسم في الصحافة البحرينية؟ هذه الندوة حاولت الإجابة على هذا السؤال، نعم اثر جاسم كثيرا ليس انطلاقا من المبادئ التي امن بها فحسب بل لأنه جاهر بها وبثها وطبقها وكان سباقا في طرحها ، وعرَض نفسه للهجوم من قبل من يعتبرون انفسهم اوصياء على الدين ، ومن انصهاره بهموم مجتمعه ، ومن صدقه ومن مساحة الجرأة التي اقتطعها لنفسه وفرضها وكرسها على الجميع دون خوف او تردد، ومن قلبه الإنساني الكبير ، ومن عطاءه ومساهماته للمحتاجين ، ومن بحثه الدائم عما يفيد وينفع ويصلح المجتمع ، كان اذا وجد الصحيفة مليئة ودسمة قال : ان صحيفتكم تساوي دينارا وليس 200 فلس ، اما اذا جاءت هزيلة فيقول " اليوم جريدتكم لا تساوي فلسا " واذا استمر الحال على هذا المنوال فسوف نلغي الاشتراك ونتوجه الى صحيفة أخرى " .
اننا نستذكر الراحل جاسم مراد لتعظيم الآراء التي امن بها والادوار التي قام بها ولكي تكون نبراسا ونموذجا لنا جميعا.
أجريت معه ذات مرة لقاءا صحفيا وطرحت عليه هذا السؤال: هل تعتبر نفسك انسانا سعيدا؟ فقال " اورثني اليتم وفقد امي في عمر مبكر حزنا مقيما ، واورثني اهلي قولونا عصبيا مزعجا كدر علي حياتي ، وليسامحني الربع والأصدقاء على عصبيتي ،انه ليس انا ، انه القولون ، واورثني ابي وجدي ثروة اسعدتني ، لكن حسي المغامر وشقاوتي وجسارتي اخذتني الى عالم التجارة والسياسة وهما مجلان متناقضان ولا يجتمعان بنجاح في كل الأرض العربية ، وقد حاولت إيجاد التوازن بينهما قدر المستطاع ،وتلك مهمة مستحيلة لمن يريد الحفاظ على استقلالية شخصيته ، لكن لم يبارحني اليقين التام منذ بواكير عمري ان الكلمة سلاح وشكل من اشكال النضال السلمي المفضي الى نيل الحقوق والحريات ، بيد ان الوعي والعقلانية وقول كلمة الحق مصدر شقاء في منطقتنا مستشهدا ببيت شعر شهير للمعري ظل يردده دوما : وذو العقل يشقى في النعيم بعقله واخو الجهالة في الشقاوة ينعم .
واختتم بالقول ان جاسم وجد ضالته في المشاركة المجتمعية المتعددة وفي التواصل الدائم مع الناس وفي البذل والعطاء والتواضع والبساطة، وفي العلاقات الطيبة الودودة مع الاخرين، ما اكسبه حب الناس واحترامهم وتقديرهم وهي أشياء اسعدته واعطت لحياته معنى وبددت ضجر شيخوخته وخففت من وطأة امراضه واطالت عمره، وامدتنا نحن معاصريه واصدقاءه ورفاق دربه بمزيد من الحياة والامل والتفاؤل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة