اثرياء الاحتيال / عصمت الموسوي:
وفقا للميثولوجيا الصينية فإن البشر يولدون
بمواهب فطرية طبيعية فيما خص جمع المال وتكوين الثروات ، فالشغف بالمال او العمل
الشاق المضني لتحصيله او ملاحقة مصادره ومصاحبة الأثرياء ومحاكاة نمط حياتهم
وانشطتهم واعمالهم لا تجلب المال بالضرورة ، وان تحقق ذلك فإنما يكون لفترة قليلة فلا
ديمومة لهذا المال ،وان توفرت هذه الفئة على مال بالوراثة او بمحض الصدفة او بضربة
حظ او فوز غير متوقع في ورقة يانصيب او عبر السرقة او الفساد او اقتناص وضع طارئ او
غيره ، فإنها أيضا ثروة لن تلبث ان تضيع او تتناقص او تجمد فلا تتحرك ولا تنمو ولا
تتراكم او يتم ملاحقة أصحابها لاحقا بتهم الفساد والسرقة والاحتيال ،لان صاحبها أساسا
ليس موهوبا وليس جاذبا للمال عبر القنوات الطبيعية .
وقد صنف حكماء الصين ثلاث شخصيات للإنسان في
علاقته بالمال، وفق منظومة الين واليانج التي تطبق على شتى مناحي الحياة ، الصنف
الأول يانج : وهو التاجر الحقيقي والشخص النشط المتحمس الموهوب " تجاريا
وماليا " صاحب الحاسة السادسة الذي يرى ما لا يراه الاخرون من فرص وإمكانات
تجارية واعدة ، وهو شخص شديد المراس ، قوي وشجاع ومغامر ومجازف وقادر على توليد
المال وتحريكه ومعرفة خفاياه وبواطنه
واسراره وادارته بذكاء وحكمة ، وتحمل الخسائر المرة تلو الأخرى ثم الانطلاق من الصفر
ومن جديد دون خوف او وجل او تردد ،هذه الفئة تشكل طبقة التجار الحقيقين .
الصنف الثاني " ين " الهادئ الحذر المسالم
البسيط المتواضع الذي يشكل عامة الناس فهو لا يمتلك موهبة مالية او تجارية ،لا
يشغل باله بالمال ومصادره وأهله ، يهتم بالتقدم على المستوى الشخصي والداخلي ويحقق
نجاحه في مجالات كثيرة وبعيدة عن مراكمة المال حتى وان عاش في يسر مادي ، يمتهن التدريس
اوالطب او الهندسة او المحاماة واعمال الفكر او الفنون او الثقافة على أنواعها ، ومثل
هؤلاء يشكلون الطبقة الوسطى ،وقد يبدع " الين " في مجال عمله وينال شهرة
واسعة بفضل اختراع او اكتشاف ما فتقوم جهة أخرى مختصة بتنمية المال باحتضان هذا
الشخص واداة ماله ، فالفنانون والمؤلفون والمخترعون العباقرة الكبار من النادر ان
تتوفر فيهم صفة الابداع التجاري ، لكن اذا توفروا على شركات او اشخاص يشترون
اختراعاتهم وأسماءهم وشهرتهم فانهم يعيشون في بحبوحة ، ولو اقتصر الامر عليهم وقرروا
تولي شئون أعمالهم بأنفسهم لما استطاعوا فعل شيء ، وهذه الفئة على اختلاف مواهبها
تجدها راضية بوضعها ومدركة لنفسه وقدراتها ،ما لم تتعرض للمحتالين وباعة الوهم
الذين قد يتلاعبون بعواطفها ويزينون لها سهولة تنمية ما لديها من مال فتراودها أحلام
الثراء وتخرج عن مسارها الطبيعي فتدخل في هذه التجارب ، وفي الغالب تخسر وقد رأينا
في بحر السنوات الأخيرة نماذج عديدة لضحايا الاستثمار الوهمي والمال السريع والمال
الملوث بالفساد ، وقد كانوا قبلها قانعين بحياتهم ولكن أضاع حلم الثراء بوصلتهم ودمر
مستقبلهم .
اما الصنف الثالث فهو " يانج المزيف "
، فهذا الانسان ينتمي أساسا وفطرة وطبعا للفئة الثانية لكنه يحتال على هذه الطبيعة
بهدف الانضمام الى فئة رجال ونساء المال الاعمال ، معتقدا ان بإمكانه بلوغ مرحلة
يانج الأصلي "التاجر الموهوب " ليس بالموهبة وانما بالشطارة والفهلوة
والتقليد ،الا ان محدودية طاقته التجارية والمالية تحول دون ذلك فيلجأ الى الطرق غير
المشروعة وغير القانونية كالزيف والكذب والتلاعب ، فلا هو يحقق مهارات الشخصية
الثانية ولا الأولى ، ذلك انه غادر طبيعته الاصلية الأساسية وارتمى في وضع لا يمت الى
طبعه وشخصيته الحذرة المترددة بصلة ، واللافت ان البشرية قد ابتليت بهذه النماذج
الأخيرة الذين تورطوا وورطوا من حولهم ودخلوا المحاكم والسجون وانتهوا الى الخسارات
المتتالية لهم ولضحاياهم ،وحتى اذا استطاعوا تكوين ثروات محدودة او كبيرة فأنها
سرعان ما تتسرب او تضيع من أيديهم بعد فترة ، كما انهم لا يتحملون نفسيا الخسائر
الكبيرة والتي هي من صلب العمل التجاري ،وحسبهم هو الانكفاء والابتعاد عن هذا
الطريق بعد التجارب الفاشلة او مواصلة درب الاحتيال الى مالانهاية
الصين القديمة سارت على فلسفة اليانج والين منذ
زمن طويل وطبقت هذا التصنيف في إدارة شئون الدولة ووضعت رجالها وموظفيها ووزرائها
وفقا لطبيعة شخصياتهم وقدراتهم؟ ورأت ان التوزيع العادل للثروة يؤمن حياة كريمة
ومحترمة لكل الأطراف، فلا تطالب فئة ين بالتساوي مع فئة اليانج ولا تنتشر ظاهر
يانج المزيف ،وهكذا تمضي الحياة بشكل طبيعي ومتناغم بقوى ين ويانج وفي طرق مختلفة
ومتنوعة لكن متكاملة
والخطر الذي يحذر منه حكماء الصين وفق هذه
المنظومة هو ضرورة الا تطغي طموحات يانج وخططه ومشاريعه المالية والتجارية على
تطلعات ين واحلامه، فيتمادى الأول وينسحق الثاني وينعكس ذلك سلبا على المجتمع
فلسفة جديرة بالتفكر والتأمل حيث يبتعد البشر
عن مواهبهم الاصلية وينتشر نموذج يانج المزيف ويهيمن الفكر الرأسمالي الذي يعظم
اهل المال ويضعهم على قمة الهرم ويشجع الاقتصاد الطموح وحب المجازفة وعدم الرضا
بوضع معين او مهنة ثابتة ما يجعل الجميع يلهثون كالوحوش خلف الثراء والتربح بأي
وسيلة حتى وان كانوا غير اهل لها.
تعليقات
إرسال تعليق