عن قائمة المظلومين في حياتنا: عصمت الموسوي:
كم مرة وجدت نفسك تترفع على الاخر او تهينه
او لا تعيره انتباهك بسبب شكله او هيئته او حديثه او مستوى تعليمه او تواضع مهنته ،
كثير منا يفعل ذلك بوعي او دون وعي أحيانا ، فثمة أفكار مسبقة مستقرة في أعماق وعينا
الباطن معطوفة على مسلمات وبديهيات راسخة لم نتخلص منها لأننا لم نختبرها ولم
نراجعها ولم نتفحصها ، وهكذا ما ان تسنح الفرصة حتى تظهر على السطح بشكل فج وصارخ
او متوار يتمثل في لغة الجسد وحركاته وايماءاته فتفضحنا وتعري ادعاءاتنا وشعاراتنا
الشكلية ذات المضمون المغاير تماما لحقيقتنا ، ولو بحثنا في الأسباب فسوف نجد ان ظلمنا
للأخر ناجم عن الموروث الاجتماعي والامثال المتداولة وانعدام الممارسة
الديموقراطية وغياب لغة الحوار والتحليل النقدي وضعف ثقافة حقوق الانسان التي لم
تطرق مجتمعاتنا الا في السنوات الأخيرة .
وهو ما يحول بيننا وبين انتهاج وتطبيق مبدأ
العدالة والمساواة في تعاطينا مع الاخر، ثم هل ننسى النظرة المتخلفة لكل ما هو
مختلف عنا، وانعدام القدرة على رؤية هذا الاختلاف بوصفه عنصر اغناء واثراء لتجربتنا
الحياتية، لكن الآفة الكبرى باعتقادي هي تعظيم الذات المبالغ فيه والذي يبلغ حد
المرض، اذ نعطي لأنفسنا قدرا كبيرا جدا في مقابل الاستهانة بالأخر او النظر اليه
بدونية واستعلاء او الغاء وجوده ،ما يشي بحجم الاستبداد الفكري الذي نتعاطاه
ونمارسه تجاه غيرنا، ولأنه استبداد متأصل ومتجذر لم يتم فحصه ولم يمتحن كما سبق
واشرت، فأنه يفعل فعله الظالم المدمر في علاقاتنا وفي تقييمنا واحكامنا
وربما بعد زمن ، حين نكبر وننضج وتتسع دائرة
معارفنا وفكرنا الحقوقي تحديدا ، او قبلها حين نتعرض لتجارب مماثلة وحالات مشابهة
تترك اثرا عميقا في نفوسنا ، ربما عندها قد نستوعب الدرس، فنرى ان قائمة المظلومين
في حياتنا طويلة ومتنوعة ، وقد لا تقتصر هذه القائمة على الاخرين والغرباء بل تمتد
أحيانا الى اقرب المقربين ابناءنا وازواجنا واخوتنا واصدقائنا وكل أولئك المحيطين
بنا ، حتى معلمينا ومعلماتنا في المدارس والجامعات لم ينجو من ظلمنا وقسوة احكامنا
وسياط كلماتنا، فننحاز الى هذا ونعرض عن ذلك ،نكيل المديح لمن نهوى ونحب ونمارس
التعسف والاحكام الجائرة والنقد الجارح والكلام المؤذي ضد من لا تروق لنا اشكالهم
او أفكارهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية والثقافية ، وربما نكون ودون قصد منا قد
تسببنا في احداث جروح عميقة واهانات انتجت عقدا وألما وامراض نفسية لأصحابها ، فهل
نجرؤ على مراجعة انفسنا وطلب الصفح والتسامح ممن اجرمنا بحقهم لإراحة ضمائرنا ؟ لدى المتصوفة قول روحي مأثور : " موتوا قبل
ان تموتوا " أي تحللوا من كل الارتباطات والمعيقات الجسدية والنفسية كي
تنطلقوا الى الحياة مجددا بشكل حر وواع وجميل ،انها اليقظة الحقيقية والمراجعة
الدقيقة التي لا تتحقق الا عبر الإبحار في اعماقنا ورصد افكارنا وكلامنا وممارساتنا
المعلن منها والخفي ، وتبين مدى انسجامها مع شرعة حقوق الانسان ،والتي ربما تعيق
تقدمنا الإنساني والمعرفي والروحي والثقافي .
لقد بدأت بهذه المقدمة كي اروي لكم حكاية
وقعت لي وكيف انني ظلمت - الى حد ما - قارئا متميزا وكاتبا واعدا لان خط يده لم
يرق لي او بالأحرى لم استطع فك طلاسمه ، كنت وقتها ادير صفحة بريد القراء في صحيفة
اخبار الخليج في منتصف أعوام الثمانينات ،واتلقى العديد من الرسائل المكتوبة بخط
اليد وفق ما هو شائع في تلك الأيام ، وكنت انحاز للخط الجميل الواضح لإنه مريح لي
ولموظفي الطباعة والتصحيح ، وتلافيا للأخطاء التي كانت شائعة في صحفنا عندئذ والتي
كنا نحاسب عليها يوميا، وهناك قارئ اهملت رسائله مرارا، ولم التفت اليها ولم أحاول
الاتصال به او التفاهم معه ، بل انني تخيلت وجهه شبيها بخطه ، الى ان جاءني قاصدا
ومعاتبا ،استخرجت رسائله من درجي ، وقلت له بكل صراحة : خطك غير مفهوم ، ذكرت له مقولة منسوبة للأمام علي
من ان " الخط الحسن يزيد الحق وضوحا " قال : الخط كالحظ لا يقدر المرء على تغييره ، قلت
له : اذن تعلم الطباعة ،او اعطي مهمة كتابة رسائلك لا بناءك ، لملم رسائله القديمة
من فوق درجي ومضى صامتا حزينا ، بدا لي وكأن لا قدرة له على احداث هذا التغيير
البسيط و البدء بتعلم شيء جديد ، بعدها بسنوات : تلقيت هدية من هذا الكاتب وهو
عبارة عن " الإصدار الأول له" ووجدتني امام كاتب جاد ورصين ولغة عربية
عالية الجودة والبلاغة والفصاحة والنحو ، وتتالت الإصدارات ،وصار ذلك الكاتب
الصغير المغمور الذي تعرض للأقصاء والإهمال بسبب خطه زميلا لنا في صفحات الرأي .
في الاهداء كتب الي: "الى الزميلة التي
ظلمتني وحالت دون نشر رسائلي بحجة رداء خطي، اهديها كتابي الأول، وأتمنى ان ينال
استحسانها "
تعليقات
إرسال تعليق