صحافتنا الورقية مريضة لا تبحث عن شفاء.
كل صباح وبعد انتهائي من قراءة الصحيفة
الورقية والتي لا تستغرق سوى عدة دقائق بين يدي، تنتابني الحسرة، واعقد المقارنات
بين ما كانت عليه صحافتنا وما انتهت اليه، واتساءل عن الظروف التي اوصلتنا الى هذه
الحالة، وعن مدى رضا مقدمي هذه الخدمة الهزيلة ومستقبليها من قراء ومعلنين وغيرهم
عن اداءها، هل هم مقتنعون حقيقة بما يقدمون لجمهور القراء؟ هل ذلك أفضل ما يمكن تقديمه؟
اليس بالإمكان زيادة جرعة المادة الصحفية الجادة وترغيب الناس فيها؟ وعلى ماذا
تراهن الصحف حاليا من اجل بقاءها؟ ولماذا اختفى عنصر المنافسة بين جميع الصحف حتى أصبحوا
جميعا نسخا مكررة من بعضهم البعض؟
لكيلا تستغرقنا الأسئلة دعونا نشخص وضع الصحف
الورقية الحالية، انني اشبهها بإنسان مريض قانع بوضعه وخاضع لمرضه، مريض لا يريد ان
يشفى بالتالي لا يسعى لإطالة عمره وتحسين وضعه، والدليل هو انتفاء أسباب التعافي
والحيوية والتطوير والجودة تماما، وقد تنبأت أطروحة ماجستير للزميل الصحفي غسان
الشهابي بأن امام الصحافة الورقية من خمس الى عشرين سنة قبل توقف صدورها ورقيا،
اعتقد ان النهاية ستكون أقصر من ذلك بكثير.
ولندخل الى الأسباب التي انتجت هذ الوضع.
أولا : سيادة رؤية واحدة رسمية لمجريات
الاحداث محليها وخارجيا وتعميمها وفرضها على الاعلام الرسمي وشبه الرسمي ومنع نقدها
او التطرق لما سواها او مساءلتها او النقاش فيها ما أدى الى انعدام الرأي الاخر
تماما ، وقد حدث ذلك منذ بدء احداث ما سمي بالربيع العربي - والذي انعكست ارتداداته
علينا – ولغاية اليوم ، ولكن لم يسبق ان تم محاسبة ومعاقبة الصحفيين البحرينيين على
حرية التعبير على الأحداث الجارية إقليميا كما حدث لدينا مؤخرا فقد أغلقت صحيفة
الوسط بقرار اداري وليس قضائي وتلك مخالفة كبيرة لقانون الصحافة نفسه بسبب تناولها
لمظاهرات جرت في المغرب ،وتعرض الناشط السياسي فاضل عباس للسجن على اثر انتقاده
لحرب اليمن ،وتمت مساءلة إبراهيم شريف لدى قسم مكافحة الجرائم الالكترونية على
خلفية ابداء رأيه في تظاهرات السودان ونقده لرئيس السوداني الذي أطاحت به الثورة لاحقا
،وجرى استدعاء الزميل عقيل سوار لقسم الجرائم الالكترونية على اثر كتابته لعدد من
التغريدات ردا على قرار وزارة الداخلية التحذيري من متابعة ما اسمته بحسابات
الفتنة الداخلية والخارجية ، وقد اعتبر عقيل ذلك تنصتا على الناس وتضييقا لحرياتهم
(ويقضي القانون بمحاسبة كل من يتابع او يعيد التغريدة للحساب الذي لا يتوافق مع
توجهات الدولة بالحبس خمس سنوات ) .
ثانيا: بقاء قانون الصحافة الصارم الذي صدر
في عام 2002 ساريا ومطبقا الى حين صدور مقترح قانون الاعلام الجديد والذي سوف
يستغرق ربما سنتين الى حين صدوره في مرسوم ملكي، وكلاهما لا يختلفان عما سبقهما من
قوانين منظمة للعمل الإعلامي، وهي قوانين قاسية ومعيقة للحريات وخاضعة لقانون
العقوبات والإرهاب، وغير متلائمة مع الزمن الرقمي الذي خرجت فيه الكلمة من الفضاء الضيق
المتحكم فيه الى فضاء حر لا حدود له .
ثالثا: الركود الاقتصادي وتراجع الإعلانات أدى
الى التقشف وهزالة الرواتب المدفوعة للصحفيين وتوقف المكافآت والزيادات، بالتالي
تراجع الابداع الصحفي في كل مجلات الكتابة من خبر وتحقيق ومقال وتقرير، فقد حل الجمود
وعدم الرغبة في التغيير او التطوير لتلافي أي مصاريف زائدة، صار ضغط المصاريف اهم
هدف للصحيفة، فاذا مات الصحفي او تقاعد او تغيب فلا احد يحل محله ، بل تعتبر
الصحيفة مثل هذه الأمور ظرفا مؤاتيا لتنفيذ سياسة التقليص التي تتبعها كل الصحف ، اما
الجودة والارتقاء بالعمل الصحفي وتطويره فلم يعد مهما.
رابعا: غابت او تضاءلت صفحة مهمة ومقروءة
صحفيا هي صفحة بريد القراء والشكاوى على اثر تفعيل برنامج تواصل الإلكتروني، وهي
صفحة يستشف منها القارئ أمورا مهمة، وقد تكون نواة لتحقيق او مقال رأي او غيره.
خامسا : منافسة الاعلام الاجتماعي والصحافة الالكترونية
وصحافة الفيديو للصحافة التقليدية ، فكل من يمتلك حسابا او منصة الكترونية للتعبير
عن نفسه او تجارته او اراءه او هواياته بأي وسيلة الكترونية يعد منافسا للصحافة ،ويطرح
هذا الاعلام البديل كل يوم بل كل دقيقة خطابا مغايرا لخطاب الصحافة السائد الخائف والتماهي
مع السلطة ، ويلقى تفاعلا كبيرا مع الناس ،وهو اكثر سرعة وحيوية وتشويقا من
الاعلام التقليدي وقد استطاع " بهاشتجاته " تكوين لوبيات رأي ضاغطة
ومؤثرة ووخارجة عن السرب ، وفرض حضوره الكبير وصنع اخباره ووسع شريحة متابعيه الذين
يصل عددهم الى الملايين قياسا بمتابعي الصحافة التقليدية ، انه الاعلام البديل
الذي لم تستطع صحافتنا مجاراته ولا التعاطي معه بمنظور عصري، فمثلا اذا حصل
الهاشتاق على رقم كبير تحول الى خبر ليس داخلي فحسب بل ربما دولي ، لكنه اعلام يواجه
بأحد امرين : فان كان مسايرا للتوجهات الرسمية فقد نجا ، واما اذا كان مخالفا فقد
يواجه بالاستدعاءات الأمنية والمضايقات الالكترونية وبجيوش مما يسمى بالذباب
الالكتروني الذي لا يعرف مصدره او هويته، وهي محاولات للتطفيش والتنغيص على الرأي
المخالف وتسفيهه وتسقيطه امام الجماهير ومعاقبته ومحاربته ، وجدير بالذكر ان منصات
الاعلام الاجتماعي لا تصنف كصحافة وان نافست الصحافة بقوة ، ومالم يحدد صاحب
المنصة او الحساب هويته بأنه صحيفة خبر او موقع رأي ، ويمتلك المهنية والتخصص
والمتابعة ويلتزم بالشروط الصحفية فلا يعد صحافة مكتملة ، وقد صنف مقترح القانون
الجديد بعض أنواع المنصات الالكترونية ذات الطابع الخبري كصحافة الكترونية وافرد
لها قسما خاصا ووضع لها شروطا تتضمن ضرورة امتلاك سجلا رسميا ورسوما كما فرض قيودا
وعقوبات على المخالفين لها ،وفي حالة الموافقة على هذا المقترح ستلقى الصحافة الإلكترونية
نفسها امام نفس التحديات الذي تواجهه الصحافة التقليدية . وجدير بالذكر ان الصحافة
الإلكترونية التي انشأها عدد من الصحفيين والتي تعمل على مدار الساعة كهاني
الفردان ومحمد الغسرة "ديلمون بوست " ومحمد العلوي /بحرين سكاي ، والخبر
اون لاين / عقيل ميرزا ومالك عبدالله ، وموقع الجدحفصي ، وبحرين فيوز والحياة اون
لاين ،ورفاعي ومحرقي وغيرهم ، وبرغم خضوعها لنفس الظروف والقوانين ، وتعمل ضمن
السقف المتاح (وفي ظل فراغ تشريعي اذ لم يصدر القانون الذي ينظمها بعد ) تشكل مصدر
دخل الوحيد لبعضهم ، الا انها عملت بمهنية ،ونطقت بما صمتت عنه الصحافة التقليدية واستقطبت
المتابعين ، وتلقى تفاعلا كبيرا حتى مع الجانب الرسمي لحل المشكلات التي يطرحونها ،وهي
صحافة احدثت نقلة نوعية في تعاطي الجماهير مع الصحافة .
سادسا
: دور ملاك الصحف والقائمين عليها في زيادة تردي الصحافة ،فلم نجد سعيا لهذه الصحف لاستقطاب الكفاءات الصحفية الجديدة ولا
تنمية الموجودين فيها ولا الدفاع عنهم في حال تعرضهم للمسائلات الأمنية على خلفية ممارسة
حرية التعبير، ولم تنتقد هذه الصحف قوانين الصحافة المجحفة بحق ممارسة الحريات المكفولة
دستوريا مع انه ذلك يقع في صلب عملها ، ولا تسمح بنشر أي مادة متعلقة بهذا الموضوع
، بل ان بعض الصحف استغلت احداث 2011 وفصلت كتابها وصحافييها تعسفيا وامتنعت عن
دفع حقوقهم المادية، واختصمتهم في المحاكم على مبالغ مالية تافهة ،وتستكتب الكتاب مجانا
او بمبالغ هزيلة يناقض ما تدعيه من مساندة للصحفيين .
وهناك أسباب عديدة قد لا يسع المجال لذكرها، الامر
الذي جعل صحافتنا وفق المنظمات المعنية بحرية التعبير تتبوأ أدني المراتب على
العكس من ذلك عندما كانت صحيفتا الوسط والوقت المستقلتين حاضرتين في المشهد الصحفي
وتتنافسان مع الصحف الأخرى، وقد حققت الصحافة البحرينية وقتها مراتب جيدة نسبيا وخصوصا
في الأعوام 2006 و2008.
هل انتهت الصحافة الورقية التقليدية وانعدم
مسوغ وجودها؟ ها نحن نشهد انحسار قراءها
ومريديها وضعف التفاعل معها وتضاءل نسخها المطبوعة ونسبة أرباحها، وان استمرارها
على النهج الحالي سيعجل بنهايتها حتما وقبل الأوان ربما، وهو مصير لا نتمناه
لمؤسساتنا الوطنية التي لعبت دورا في تطور المجتمع ونهضته، بيد انني أرى منظومة إعلامية
وصحافية قديمة تتداعى وتنهار تحت وطأة التغيير التكنولوجي والتحول الفكري الذي يلف
العالم بينما تقف صحافتنا عاجزة وغير قادرة على مجاراته.
واختتم بالقول ان استيراد الأجهزة الذكية
وفتح الأبواب لشركات الاتصال وتطوير بنية شبكات الانترنت وتوسيعها وزيادة شريحة الموصولين
بهذه الشبكة تستدعي أيضا تغييرا في البنية الذهنية والاتجاه الى إرساء القوانين الحرة
والمواكبة للتحولات الراهنة والقادمة، حتى لا نكون في واد والعالم في واد آخر.
ورقة مقدمة لمركز شباب جدحفص أغسطس 2019
تعليقات
إرسال تعليق