في رحيل
جاسم مراد : عصمت الموسوي
دخلت الى
بيت الراحل جاسم مراد وأنا طفلة صغيرة في المرحلة الابتدائية ، كنت صديقة ابنته المهندسة
أسماء مراد "الوكيل المساعد للصرف الصحي بوزارة الاشغال " وكنا نذرع
الطريق مشيا على الأقدام من مدرسة السلمانية إلى القفول ثم إلى بيتي في النعيم ،وذلك
في الأيام التي لا يأتي جدها محمد مراد لتوصيلها بسيارته ، بدا لي جاسم في تلك
الفترة أطول رجل شاهدته في حياتي ،يصل الى أسماعي صوته من بعيد ، صوتا جهوريا
صاخبا مجلجلا ، أما زوجته نوره فخرو فقد بدت لي كنجمة سينمائية ، جميلة طويلة
وانيقة وهادئة ولا يسمع لها أي صوت ، وكنت أراها دوما منشغلة بكتاب او مجلة ، وتمضي
السنوات وأعود الى نفس البيت مرة أخرى لإجراء لقاء صحفي مع جاسم مراد ضمن تحقيق
يتناول عثرات الصناعة الوطنية في البحرين ، كنا نعتمد تسجيل اللقاءات في تلك
الفترة لتحري مزيد من الدقة في فترة سيطرة قانون المطبوعات الصارم والكاتم على أنفاس
الصحافة ، ما أن أغلقت التسجيل حتى اسر لي
جاسم بأحداث ووقائع سياسية كان شاهدا عليها او مشاركا فيها منذ الخمسينات ،كان ذلك
في العام 1986 ، كنا نعيش تحت رحمة قانون أمن الدولة بعد حل البرلمان السبعيني الذي
كان جاسم نائبا بارزا فيه ، وبدءا من ذلك اليوم سيصير جاسم صديقا ومستشارا لي في
الشأن المحلي السياسي تحديدا والذي كان جاسم ملما به ، يتحدث جاسم بوضوح ودقة ساردا
كل التفاصيل التاريخية ، وكأن تلك الاحداث وقعت للتو ، وهي احداث ظل يعيدا ويكررها
ولم تغادره ابدا حتى رحيله ، في نفسه غصة ومرارة على أمور ما كان يجدر ان تحدث لو
تمسكت اطراف الصراع السياسي في بلدنا بقليل من الواقعية ، كان يرى ان الغلو ورفع
سقف المطالب السياسية يتسبب في خسارة كل المكتسبات الشعبية التي ناضل الشعب طويلا
لنيلها ، كان يقول : يجب علينا ان نرى الصورة
البانورامية الشاملة لجزيرة صغيرة يمتلك شعبها طموحا سياسيا اكبر من حجمها
وقدراتها ، " لولا الغلو لاستمرت التجربة الديموقراطية التي وُأدت في المهد "
تلك كانت رؤيته التي لم اتفق معه فيها لغاية اليوم ، فأنا أرى أن التجارب
الديموقراطية في الأرض العربية كلها لم تكن جادة لان ليس هناك ايمان حقيقي بجدوى
الديموقراطية ، لذلك فهي مرشحة للزوال او الموت في عمر مبكر ، اذ لا قدرة للأنظمة
السياسية او المصالح الغربية الرأسمالية على التعاطي معها مالم تكن تحت سيطرتها
تماما ، ما ينفي عنها صفة الديموقراطية والاستقلالية والتشارك في صنع القرار ، تجولت
في بيت جاسم منذ اول يوم تعرفت فيه عليه ،
أطلعني على صور وكتب ومحاضر اجتماعات المجلس الوطني ، وبرغم قصر عمر ذلك المجلس إلا
إنها بقيت لمن عاصرها أو أرخها او شارك فيها مرجعا مهما واساسا للانطلاق منها او
قبلها لسرد التاريخ السياسي للبحرين ، بداية من المجلس التأسيسي الذي كتب دستور
1973 مرورا بالقوانين والمقترحات التي ناقشها المجلس ،وأهمها مشروع إلحاق ملكية
الأراضي بالدولة ، ثم المطالب العمالية وحقوق المرأة وحرية الصحافة والقواعد
الأجنبية وغيرها ، وانتهاء بحل المجلس ودخول البلد في مرحلة سوداء مظلمة تحت مظلة
قانون امن الدولة وسوف اكتشف لاحقا أن جاسم
مراد لم يخصني وحدي بكل تلك المعلومات ،فقد كان ذلك ديدنه مع كل صحفي يلتقيه
،والواقع انني انطلقت إلى قراءة التاريخ السياسي للبحرين بدءا من تجربة جاسم مراد
ورؤيته وتحليله لكل الاحداث السابقة واللاحقة ،وقد اختلفت واتفقت معه مثلي مثل
اخرين من رفقاء جاسم ومجايليه ورواد مجلسه والباحثين عن الحقيقة في بلد متكرر
الازمات ، كان جاسم مراد رغم الردة السياسية الكبرى التي أعقبت حل المجلس الوطني يعوُل
بعض الشيء على الصحافة " كتعويض " بوصفها أداة تغيير وتطوير وإصلاح
وتحديث مهما بدا سقفها ضيقا ومحدودا ،يراها وسيلة مهمة في ظل فقر الحياة السياسية وانعدام حرية التعبير
في ذلك الوقت ، لذلك إلتف حوله الصحفيون وصار وجهة أساسية في ذاكرة الوطن ، اكتبوا
،انقلوا شكاوى الناس ، لا تستهينوا بقوة الكلمة ، المسئولون يقرأون ، تلك كانت
نصائحه للصحفيين ، كان جاسم قارئا نهما ومتابعا يوميا لكل الاخبار والمقالات
الصحفية المحلية وجديد الكتب والمطبوعات ، يستيقظ في وقت مبكر ،يستمع الى الإذاعات
العالمية ، يقرأ الصحف ، ينتقي له ابنه زياد ابداعات الانترنت من المقالات
المنشورة في الصحف التي لا تصل إلى البحرين ، يطبع عشرات النسخ من أي مقال يعجبه
ويوزعه على من يلتقيه ، يهاتف الصحفيين ، يعقب على مقالاتهم ، يضيف ، يقترح ، يصحح ، يدعو الصحفيين الى بيته ويناقشهم
ويحثهم على التركيز على المواضيع الجادة ، " أنا تاجر لا أجيد الكتابة "
أغلب الصحفيين البحريين عبروا مكتبه ودخلوا بيته واستفادوا من معلوماته ، وقد يكون
لكثير منهم حكايات عديدة لا تنسى مع جاسم ، وأعترف ان جاسم كان خير معين لي ، وأحد
العناصر المهمة في تجربتي الصحفية بما امدني من كتب ومعلومات ومقالات ، وبما امتلك
من تجربة سياسية طويلة وممتدة ، وبما ضم في مجلسه من عناصر وشخصيات وطنية متنوعة ،
وقد احتفظ في بيته بمضابط جلسات مجلس 1973 واقوال الصحف منذ السبعينيات وما قبلها ،
وسجلت ذاكرته الحديدية ما لم تلتقطه الصحافة او لم تجرؤ على تدوينه ، لم يتوقف
جاسم عن القراءة والمتابعة والمشاركة قولا فعلا في مسار الحياة السياسية البحرينية
منذ بواكير وعيه السياسي في مطلع الخمسينات الا بعد ان اشتد عليه المرض ، ولقد ظل
متوقد الذهن ،حاضر البديهة ، يعرف زوُاره ويتذكر قضاياهم ومشاكلهم ، صراحته وشجاعته وجرأته تدفع الناس إلى الاقتراب
منه والبوح له أو الهرب منه أحيانا ،اذا دخلت بيته ستخرج بنسخة من كتاب أو مقال أو
معلومة ، خصص زاوية في بيته للمقالات المختلفة المستخلصة من مقتنياته من الكتب ومن
قراءاته النوعية ،حتى اذا زارك جاسم في بيتك سوف يهديك كتابا او مقالا مطبوعا ، كأنه
في سباق سريع مع الزمن لتوصيل ما يراه جديرا بالقراءة في سبيل توعية الناس
وتنويرهم ، وإذا سافر تسافر معه المقالات
،حتى وهو في الطائرة يوزع النسخ المطبوعة على من يتعرف عليهم من الركاب ، في بيته الجميل
في لبنان ثمة زاوية مخصصة لمكتب وطابعة وجهاز فاكس ،ومقال رائح وآخر قادم ، وستظل
تلك عادة ملازمة له لم تتوقف الا بعد ان حل الانترنت وغاب الورق ، رفض جاسم
الانخراط في عالم التواصل الاجتماعي وظل الى غاية رحيله بعيدا عن هذه الوسائل الجديدة
وكان يردد " انا انسان أمي في مجال التكنولوجيا " بقى صديقا للكتب الفكرية والتاريخية والسياسية القيًمة
،يرتاح الى المتحدثين المثقفين ذوو الثقافة العلمية والفكر الرصين ،يتجلى وتبرق
عيناه وينشرح صدره بوجودهم ، ويصاب بالمغص في حضور الحديث التافه ، يعبر عن
امتعاضه سريعا ويهرب من المكان ، يلقي بكلمات قاسية في وجه التملق والزيف والتضليل
بكافة اشكاله سواء كان سياسيا أم دينيا أم اجتماعيا ،يهاتف من يختلف معهم مساء في
صباح اليوم التالي ويعيد التواصل ولا يقطع الجسور أبدا ، ولمن يلتقي جاسم للمرة
الأولى قد يصاب بالصدمة من فرط صراحته غير المألوفة في مجتمعنا ، ظل خارج السرب الاجتماعي
النمطي المعتاد التقليدي في كل شي ، صعب المراس صعب الاحتواء ...
"الحمد لله الذي أمدني بنعمة العقل ومنحني
حرية الاختيار " تلك كلمات جاسم التي لا تنسى، يعرفها كل من اقترب من جاسم وعرفه
وتواصل معه ...
تعليقات
إرسال تعليق