احمد البوسطة: عصمت الموسوي
من النادر ان تتوفر بيئات العمل ومكاتب
الوظيفة على زملاء يتمتعون بشخصيات موهوبة وممتعة ومشاغبة ومتفردة وساخرة وساخطة ،
تسعد وتفرح بوجودهم اذا قدموا ، ففي حضرتهم يصير العمل الشاق الممل الضاغط لطيفا
ومحتملا ، وتفتقدهم اذا غابوا وتظل تحن الى تلك اللحظات الجميلة التي جمعتك بهم
،،، عن زميلنا الصحفي الراحل احمد البوسطة اتحدث : اذ مثل البوسطة احد وجوه الصحافة البحرينية المضيئة
ابان ازدهارها وتعدد اصواتها وتنوع نكهاتها ،وعندما كانت الصحف تتنافس لاستقطاب
الأقلام المختلفة - بغض النظر عن
انتماءاتها الايدلوجية او المذهبية او السياسية - ما منحها النجاح والتألق ، من
كان يتصور ان الشاب الذي بدأ حياته كأصغر لاعب في منتخب البحرين لكرة القدم سينتهي
به المطاف كسيحا ومريضا ؟ انها رحلة عمر
طويلة ذات منعطفات فارقة وغريبة تتبدى فيها شخصية البوسطة المتمردة السابحة في
ملكوتها الخاص وروحه العنيدة غير القابلة لمجاراة الزمن الذي كان يريد ان يطيعه وفق هواه ومزاجه ، انخرط البوسطة في العمل
الصحفي متسلحا بوعي ماركسي عميق ومتجذر ،انغمس فيه حتى النخاع وصار جزءا من تكوينه
ونمط حياته ،انساب في كتاباته وكلامه ،لم يخفه او يداريه حتى بعد سقوط معقل الشيوعية
وتحول الرفاق الى مرافئ اكثر امنا واستقرارا ، وبشهادة أكاديمية رفيعة المستوى
وبموهبة حقيقية في التعبير والكتابة السلسة مع حس عال بالمسؤولية تجاه الظلم وغياب
العدالة ، تعذر عليه العمل في البحرين في منتصف السبعينات ابان سيطرة قانون امن
الدولة فذهب الى المنفى القسري ، عاد الى الوطن مجددا عندما لاحت بشائر التغيير
والإصلاح السياسي وطي صفحة الماضي والتسامح مع المغضوب عليهم وادماجهم في
منظومة التوجهات التصالحية الجديدة ،بيد
ان سفينة البوسطة لم ترسو يوما على ضفة الا لكي تغادرها سريعا ، لم يعرف المهادنة
ولا المرونة ولا نصف القول ،يختلف يوميا ويتشاجر ويعلو صوته ويهدد ويتوعد مع "
مقص الرقيب " عدوه اللدود " ثم يعود ادراجه في اليوم التالي تسبقه ضحكته
المجللة مجتهدا للعمل ضمن الممكن والمسموح وبما لا يمس قناعاته ومبادئه ، قال
لاحقا : ان اجمل مقالاته هي تلك التي كتبها
في صحيفة الوسط ومجلة الديموقراطي ،وهي وحدها التي تستحق التوثيق لأنها لم تٌخدش
بمقص الرقيب ، ،بطل تراجيدي بامتياز ، ظل جيبه خاليا لكن امتلأت جعبته بالحكايات
عن تجاربه اليومية وهمومه واخفاقاته وطرائقه وذكاءه الفطري في التعاطي معها ،وفي
معاناته وخساراته المتكررة لمصدر رزقه ،ذات يوم في نهاية التسعينات تصور له ان
بإمكان شخص على شاكلته ان يصير ثريا ويغادر مرافئي الفقر والعوز التي انهكته طوال
حياته ، قدم استقالته من صحيفة الأيام وباع اثاث منزله وتحصل على مدخراته
التأمينية ومضى الى تجربة في الاستثمار التجاري - بحسن نية وسذاجة – فخدع وخسر وضاعت
معها حصيلة عمره ، اقترض لاحقا واجبر نفسه
على الالتزام الوظيفي مكرها ،وبدا كمن ربط نفسه بصخرة ثقيلة لا فكاك منها لتلبية
متطلبات دراسة الأبناء ، في تلك الفترة البسيطة من الزمن تجلى فيها ابداعه الصحفي
وكتاباته المطعمة بخبراته الشخصية وبالأدب الروسي وبالشعر والروايات وبعشرات الكتب
التي قرأها وتشربها وأعتنق مبادئها العظيمة ومثلها الإنسانية في الحب والخير
والجمال والعدالة ، بيد ان الأمان الوظيفي في مهنة الصحافة كان امانا قصيرا
ومنطويا على خدعة، وقد تجرع مراراته كل من آمن بحرية الرأي والتعبير واتخذ الكلمة
سلاحا للتنوير والتغيير والإصلاح السياسي والمجتمعي والعدالة والمساواة وحكم
القانون والتسامح وتقبل الاختلاف والمختلفين،
منذ بدايات الصحافة البحرينية في مطلع القرن الماضي وانتهاء بالصحافة الورقية
الراهنة التي ربما جاء كوفيد 19 لينتشلها من ازماتها ويريحها من وضعها المأزوم .
لم يخف البوسطة من شيء ولم يخف على أي شيء،
نقطة ضعفه الوحيدة هي عائلته التي قاست معه وتضررت اشد الضرر بسبب عطالته وغربته
ومرضه، منحته الدولة "مريضا " - عبر العلاج المجاني الطويل - اضعاف ما حصل
عليه وهو معافى، احب الحياة ولكنه تعاطى معها باستسهال وخفة ولامبالاة ، نسي قرص
الدواء ذات ليلة - ربما سهوا - فداهمته الجلطة، ذهب الى التأمينات للحصول على ما لديه
من مستحقات قفيل له: تستحقها حين يصل عمرك الى الثامنة والخمسين، قال لهم : وما
ادراكم انني سأعيش الى هذا العمر ؟
تعليقات
إرسال تعليق