جاسم مراد: رحل عن عالمنا واستوطن وجداننا: عصمت
الموسوي
بعد عام من رحيل جاسم مراد (توفي في التاسع
من يناير 2019) لا يزال جاسم حاضرا في وجداننا، نستذكره ونستعيد كلماته وامثاله
وتعبيراته وطرائفه ومفرداته الخاصة التي عرف بها وطبعت شخصيته.
حتى حين خيم عليه المرض واقعده عن الحركة
والكلام، ظل حضور جاسم طاغيا، نتحاور ونتناقش ونستدير له برؤوسنا، نود معرفة رأيه
في هذا الامر او ذاك: كان يومئ برأسه تعبيرا عن الرضا او الرفض او الاستياء او
السخرية، او يختار الصمت الأكثر تعبيرا وبلاغة .
أحاط جاسم نفسه بكل ما يمت الى الحياة
والتفاعل الخلاق بصلة ، مكتبة زاخرة ومتجددة بالكتب التي يهواها قلبه ، وسفر وترحال
وإقامة هنا وهناك ، وأصدقاء وتجارة ومجالس مفتوحة وعطاء وكلام وحيوية متدفقة وتواصل
انساني ، وشبكة واسعة من الأصدقاء الذين لازموا مكتبه ومجالسه المفتوحة ووجد في
صحبتهم الخبر والمعلومة وتزجية الوقت والترفيه ، يهاتف اصدقاءه كل يوم ، يحب
المتفاعلين الذين يجد لديهم ما يقولونه وما يفعلونه سواء كانوا في مناصب مرموقة او
مهن بسيطة ، تستهويه حكايات المجتمع على تعددها وتنوعها ،يتتبع أحوال بلده ومشاكلهم
السياسية ،يستيقظ على قراءة الصحف وسماع الاخبار ،يكتب ويصدح بالرأي الجريء ، يسأل ويستفهم ويقترح
الحلول ، ويتواضع فيما لا يعرف .
الا ان حسه النضالي ظل ملازما له طوال حياته
، وهي ميزة قلما نجدها لدى شريحة التجار ورجال الاعمال والذين يفضلون النأي
بأنفسهم عن ميدان السياسة كي لا تتأثر مصالحهم التجارية ، ذات مرة سمع جاسم مراد
في عام 2009 عن خبر يعود الى المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد ، ويقول الخبر انها
مريضة وبحاجة لإجراء عملية جراحية في
عينها ولا تجد من يعينها ، هاتفني جاسم كعادته في الصباح وسألني عن مدى صحة الخبر
وكيفية الوصول الى عنوان جميلة والتواصل معها من اجل مساعدتها ماليا وانتشالها من
محنتها ، كان الانترنت في ذلك الوقت شحيحا ولا يتضمن اخبارا مفصلة وسريعة كما هو
الحال راهنا ،اتصلت هاتفيا بأحد الشخصيات التي اعرفها وهو اكاديمي جزائري يعمل
أستاذا في جامعة البحرين فاتضح انه لم يسمع بالخبر ، وما هي الا عدة أيام حتى
وجدنا الخبر وقد انتشر لاحقا على نطاق واسع ، وصار حديث الناس والصحف العربية وقد
ترافق بالتعليقات وانبرى العديد من القراء للسؤال وكيف يحدث ذلك لأيقونة نضالية
كجميلة بوحيرد ؟ ورغم ان التصريح لم يصدر عن السيدة جميلة نفسها الا انه كان
متداولا في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، في النهاية أصدرت جهة رسمية جزائرية
خبرا أكد ان الحكومة الجزائرية اخذت على عاتقها تبني علاج السيدة جميلة وارسلتها مع
مرافق خاص لتلقي العلاج في الخارج على نفقة الدولة، وقد طبعت الخبر في الحال وارسلته
الى جاسم كي يطمئن، واتذكر جملته المعهودة يومها " بشرك الله بالخير "
جسَد جاسم القيم البحرينية الاصيلة من طيبة
وكرم وتواصل واغاثة للملهوف وتواصل مع الناس، لا يبخل بمال ولا بمعلومة ولا بكتاب
، يمنح بسخاء بلا شروط وبلا مقابل ، كثيرون هم أولئك الذين زرعتهم الاقدار في طريق
جاسم فاستغنوا واستفادوا ، ساعدهم جاسم وتوسط - بحكم قربه من نظام الحكم اومن طبقة
رجال الاعمال ووضع الكثير منهم على سكة الوظائف والمهن المرموقة المناسبة
لمؤهلاتهم ، الا ان مساعدة جاسم لطلاب العلم جديرة بالتقدير والاحترام ،اذ كان
جاسم يصل اليهم او يصلون اليه عبر تتبعه لصفحات الجرائد وبريد القراء او عبر من
يطرقون باب بيته او هاتفه او مكتبه او رقم صندوق بريده المدوَن على بطاقته
التعريفية ، جاسم مكًن هذه الفئة من جيبه الخاص ، والى يومنا هذا ظلت أسماء هؤلاء
الطلاب طي الكتمان والسرية .
قارئ نهم، الهمته الكتب الفكرية والفلسفية
والسياسية التي قرأها مبكرا فأدرك المسار الصحيح للتطور والتمدن والتحضر القائم
على نظريات العلم والتفكير النقدي والبحث والتجربة وحتمية التغيير، أعجب بحضارة
الغرب وطالب بالاقتداء بها ومحاكاتها، ولم يكن سباقا لعصره فيما اعتقد ورأى فحسب،
بل كان جريئا في طرح ما كان الكثير من المثقفين وحملة الاقلام يخشون من المجاهرة
به طلبا لرضا المجتمع ونشدانا للسكون والثبات وايثارا للسلامة.
لم يكن النضال لدى جاسم مراد سياسيا فحسب، وانما
كان سعيا دائما ومستميتا من اجل الإصلاح المجتمعي والحوكمة الرشيدة وتطوير أجهزة
الدولة وتمكين الشعب من حقوقه ومكتسباته وفق الدستور الذي ساهم في كتابته، ورغبة
لم تفتر يوما من اجل حياة أفضل للإنسان البحريني عبر تأهيله وتمكينه علميا وسياسيا
وصحيا وخدماتيا، وقد تحدث جاسم وكتب طوال حياته عن أهمية تطوير مناهج العلم
والتربية ورفدها بالحقائق والعلوم وإزالة ما علق بها سهوا او قصدا من أوهام
وخرافات والغام فكرية اعاقت تطور العقل وحاصرته وقيدت حريته وابداعه.
آمن جاسم باله المحبة والعقل والعدل والعطاء والرحمة،
كفر بالطائفية والتعصب الديني والتحيًز المذهبي بكافة اشكاله، حاربه وتصدى لدعاته،
في الوقت الذي كان فيه جاسم منفتحا على كل الثقافات والأديان والأفكار ، يناقش
ويحاور يقارع الحجة بالحجة ، ويستقبل في مجلسه كل الاطياف الاجتماعية والفكرية
والدينية المتعددة الاطياف ،يختلف مع البعض بيد انه لا يخاصم ولا يعادي ولا يقطع
حبال الود ابدا ، قد كان جاسم مراد صوفيا في اخلاقه الروحية، حفظ عن ظهر قلب مقولات
المتصوفين واشعارهم وحكمهم وممن وجدوا "ان الطريق الى الله بعدد انفاس
الخلائق" وان الايمان بالاختلاف والتعددية وقبول الاخر هو الايمان الحقيقي والسبيل
الى السلام والعيش المشترك الآمن ، وان ليس هناك مبررات للصراع والاقتتال الديني
الذي وصفه دوما بأنه صنيعة الاستعمار والاستبداد والتخلف وانعدام الوعي واداة
للفرقة والتسلط.
تمثل دوما قصيدة شيخ المتصوفة محي الدين ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن
ديني الى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان
ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف، والواح توراة ومصحف
قرآن
أدين بدين الحب انى توجهت ركائبه، فالحب ديني وايماني.
المقال اعلاه جاء ضمن مساهمتي في كتاب عن جاسم مراد للدكتورة غنية عليوي " افق لم يتسع له وطن " الصادر عن دار فراديس للنشر والتوزيع 2020
تعليقات
إرسال تعليق