من السبعين الى التسعين :
امي والرؤية : عصمت الموسوي
لم تكن امي حين بلغت السبعين من عمرها واهنة
او ضعيفة ، بل سيدة نحيفة ، خفيفة الوزن وسريعة الحركة ، تنتقل كالفراشة بين الغرف
والاحواش ،تصعد ادراج بيتنا القديم وتهبط بسرعة قياسية ، ولم تكن تعاني أي مرض من
امراض الشيخوخة ،فلا ضغط دم ولا سكر ولا هشاشة جسدية او ذهنية ، حتى النظارة
الطبية لم ترتدها الا في منتصف الستينات من عمرها ومن اجل الخياطة فقط ، كان اول قرار اتخذته العائلة بشأن امي في هذه
المرحلة الزمنية هو إيجاد دور جديد لها ونقلها الى بيت آخر بتصميم عصري ،بيت يناسبها
ويناسبنا نحن أيضا حيث سنقضي في هذا البيت أياما واوقاتا كثيرة ، ادماج امي في
حياتنا قرار تشاركناه معا ،نحن الأبناء الاربعة عشر ،فليست امي هي تلك الشخصية
السهلة المستسلمة لعمرها او القانعة والراضية بقدرها الجديد المحدود ، ولا نحن
قادرون على الاستغناء عنها او منحها مساحة صغيرة او هامشية في حياتنا ،وهي المرأة
الاستثنائية الجبارة التي أنشأت وادارت عائلة كبيرة وحدها دون معين، ولقد بذلت امي
كل ما بوسعها بل وناضلت من اجل هذا الادماج ،أي ان نكون جزءا من حياتها وتكون هي جزءا
من حياتنا ، تلك كانت رؤية امي ،وقد تحقق لامي ما ارادت وما تمنت وما سعت من اجله .
في العام 2003 حين دخلت بيتها الجديد كان
الأبناء جميعا قد تزوجوا واستقروا في حيواتهم الجديدة وكانت امي تخطو نحو الخامسة
والسبعين ،لكنها ، هنا في هذا البيت بدت كأمرة جديدة ومتفرغة لهواياتها وصداقاتها
ومشاريعها وضيوفها وابناءها واحفادها وفي نسج علاقات جديدة ومختلفة وتبادلية مع كل
فرد في اسرتها الكبيرة ، وكانت تفاجئنا بل وتتفوق علينا في حيويتها وافكارها وفي توقها
الدائم للتغيير وعدم استكانتها للجمود ، احتفلنا معها بأفراحنا وانجازاتنا وتشاركنا
امنياتنا وطموحاتنا ، وكانت امي في قلب هذه
المناسبات من زواج وولادات واعياد ميلاد ومشاريع عمل وسفر .
سافرت امي مع اغلب ابناءها اثناء مرحلة تلقي
تعليمهم العالي في الخارج ،مصر والهند وبريطانيا وامريكا .
ثم سافرت معنا لاحقا في رحلاتنا السياحية الى
سوريا ولبنان والقاهرة ودول الخليج وتركيا وايران ،ثم اخذناها الى رحلات استجمام
وعلاج الى الأردن وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ولبنان ،ثم رافقت اختي الصغيرة في رحلة ولادة
ابنها البكر في أمريكا ،وتلك كانت رحلة طويلة ومرهقة لامرأة في منتصف السبعين من
عمرها، بيد ان إصرارها على التواجد معنا
في اهم الأيام واصعبها يشي برغبتها الشديدة في عدم الانفصال عنا وبعشقها لمواجهة
الصعاب وحب المغامرة والتجربة واختبار اقصى درجات التحمل والصبر ، ذات مرة لقيت
صعوبات عديدة في احدى رحلاتها فظلت تردد " يفترض بامرأة في عمري ان تكون
مستقرة في بيتها لكني اصارع الدنيا عنوة وغصبا عني وعنها " تغلغلت امي في ادق
تفاصيل حياتنا ، ،قد كان بيتنا في النعيم في وسط المنامة محطة عبور أساسية لنا
جميعا بعد رحيلنا وانتقالنا منه ، وكان هو "المطعم او المضيف " لموظفي
المنامة من ابناءها واحفادها لاحقا والذين يفدون اليها من مقار أعمالهم في العاصمة
ظهرا وعصرا ومساءا ، اما بيتها التالي في أبو صيبع فقط توسط اغلب بيوت ابناءها ،
وهي التي باركت اختيار موقعه وحرصت على تأثيثه واختارت الوانه الزاهية البراقة وملئته
بالنباتات والزهور .
ادماج امي في حياتنا نهج سرنا عليه جميعا ما
امد في عمرها وجعل شيخوختها سعيدة ومتجددة، وحقق للأسرة وحدتها وترابطها واجتماعها
على مصالحها ونبذ الخلافات والشقاق والفرقة بين افرادها .
حين كبرت العائلة وتمددت وجاء الاحفاد وبرزت
الإشكالات العائلية المعتادة لاي اسرة كبيرة ، قررنا ان نتعاطى مع هذه المستجدات
ضمن مجلس خاص للعائلة وابقينا امي بعيدة الى حد ما عن هذه الأعاصير العابرة حماية
لصحتها وقولونها العصبي ، لكن سرعان ما تحول هذا المجلس الى نواة لحصد وتتبع
إنجازات أبناء العائلة واحفادها في مجالات التحصيل العلمي والوظيفي ، وجاءت امي
الى هذه الاحتفالات لتوزيع الاوسمة وشهادات التفوق والهدايا ، قالت امي لاحقا : ان
تلك كانت اجمل لحظات عمرها .
وحين وهنت صحتها وتعذر عليها المشي والحركة جئنا
بالصور وبأفلام الفيديو الى سريرها وحرصنا على ان تعرف وترى وتشارك معنا بحواسها
وبقلبها ووجدانها ،وتفرح وتشجع وتبدي رأيها وتمنح استحسانها وبركاتها ، يهمس لها
احد اخوتي " عندي مشروع كبير وجئت طالبا دعواتك " تنخرط معه في مشروعه وتصبح
جزءا منه ،وتهاتفه يوميا للسؤال والاستفسار ، تسألون عن سر العمر المديد ، هذا هو
الجواب ، فقد تشاركنا معها مرحلة شيخوختها عبر ادماجها في حياتنا بكل تفاصيلها كي لا
تشعر بوطأة الفراغ ووحشة الشيخوخة وكي يستمر حبل الترابط والود والرحمة بيننا
وبينها دون انقطاع ، وتلك كانت رؤية امي لنفسها وعلى امتداد مراحل عمرها ، وقد كنا
نحن ابناءها عناصر أساسية وفاعلة ومساندة في تحقيق هذه الرؤية.
سيدتي الفاضلة
ردحذفأقرأ كلماتك متصوراً إلتفافكم حول تلك الأم العظيمة و أتخيل ابتسامتها و فخرها بكم و أراها تتنفس بكم و تعيش لكم و معكم، لكن في نفس الوقت تعدو على ذاكرتي أمهات عجّل بهن الإهمال و الفراغ إلى الرحيل، و حتى مع وجودهن على قيد الحياة إلا أنهن كالموتى بلا صوت و لا رأي ولا أمر، ليتنا ندرك قبل الفقد أن الأم لا تستغني عنا و إن تصورنا أننا في غنىً عنها.