درارا الزرادشتي : عصمت الموسوي 

دارا الزرادشتي رواية تاريخية ترصد مرحلة مهمة في التاريخ العربي الفارسي الاسلامي من منظور ثقافي ديني واجتماعي ، في القرن الثالث عشر الميلادي ، نشأ الطفل دارا في احضان الديانة الزرادشتية ،حيث ولد في مدينة يزد الايرانية وتشرب قيمها وتعاليمها من ابيه واهله ومحيطه ، قرأ كتابها الديني المقدس "الافستا " المكتوب قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة وأعده الأب ليكون كاهن الطائفة من بعده ،لكنه حين يدفن والده وترحل جماعته وتتفرق في ارض الله بحثا عن الامان والحفاظ على الارث الديني  ، يقرر درارا التوجه صوب فارس واختبار حياة جديدة يعيشها  بنفسه وفق ارادته الحرة المستقلة،وهو الامر النابع من صميم العقيدة الزرادشتية.

رحلة دارا في رواية عقيل الموسوي الجديدة الصادرة حديثا عن دار سؤال في بيروت مطلع يناير 2021 هي رحلة ايضا في المخزون الثقافي والمعرفي للكاتب ، ويتجلى من خلالها الاطلاع الواسع والتفصيلي العميق لهذه الحقبة والاشتغال على منابع فكرها السائد ومناخها المعرفي السياسي والديني وعلومها ورجالاتها وحكمائها وكتبها ومفرداتها ، وازعم ان الكاتب قد استقى كل تلك المعلومات وغاص في تفاصيلها من خلال أسفاره وقراءاته وشغفه بالعملات الإسلامية المتعددة . 

وتبدأ الرواية بالتحديات التي يلقاها الزرادشتيون بعد دخول الاسلام الى ارض فارس فيتحتم على دارار خلع جلبابه القديم والتماهي مع الثقافة السائدة في المدن التي يفد إليها طلبا لرزقه وحماية لنفسه ، متكئا على  تراث زرادشتي متجذر وقديم يقول بالتقية والتخفي للنجاة من الأخطار .

 يلج دارا الحياة الجديدة ويعتنق الاسلام ساعيا الى استقرار اجتماعي وامان وجودي وطمأنينة نفسية مختلفة عن تلك التي نشأ عليها ، يلتقي دارا خلال تجواله أصنافا من البشر المانويين والمسلمين والنصارى والاشوريين واليهود ،يتعاطى معهم ويحاورهم ويتأمل أنماط حياتهم ويرى من خلالها التحريف والخزعبلات التي يتداولها عامة الناس ويقارنها بكتبه ودينه ومعتقده ، يختبر الغربة عن الوطن والغربة عن دينه باحثا عما يشبع توقه الى المعرفة النورانية الخالصة ، يطلب العلم من حكماء الزمان وكهنته ، يعيش منطويا على اسراره متطلعا الى قيامة ارضه اريانا ،وهي تلك الامنية التي لازمته طويلا ، يلتصق بدفتره ليل نهار وينهمك في كتابة تجاربه ،بيد انه يقسو على نفسه ويحملها ما تطيق وما لاتطيق عبر الصوم والتجويع والزهد والتقشف ،  يتعلم اللغات العديدة رغبة في زاد معرفي كوني شامل وغني ومتنوع ، يطرق الحب بابه فيرى المرأة مدخلا الى عالم رحب وجميل وباعث على تجدد الحياة .

رحلة دارا ومعاني الحياة وحكمة المؤمن تتجلى له باشكال عديدة ومختلفة، اذ يراها في باطن الكتب وفي معابد الدين المقدسة وفي صميم معاش البشر في الأسواق والبازارات ،على ان المنعطف الاقسى يحدث له في تجربة التصوف ، اذ يخوض دارا صراعا شديد الوطأة مع ذاته ومع محيطه ، وتوشك التجربة ان تطيح بكل قناعاته ،يقاد كعبد ويصير درويشا ،يتضاحك عليه الناس في الأسواق ، ينجو من الموت وتكتب له الحياة تجربة اثر اخرى ،لكنه في كل مرة يخرج من نفسه ويقترب من أعماقه .

درارا الباحث عن ولادة جديدة من رحم الاعتكاف والتثقف والخلوات والسجن والعبودية والتحرر من كل الاغلال الذهنية والجسدية يشق طرقا جديدة وغير مألوفة لفهم حكمة السماء ومعرفة الإله ،وبذا تحيلنا الرواية إلى تلك الأيديولوجيات والمعتقدات والأديان والمذاهب المعاشة في تلك الحقبة والنقاشات الجدلية التي جرت حولها من مصادر متعددة ،متآلفة و متعارضة ،وقد استعرضها الكاتب بأسلوب سلس وشيق ولغة أدبية رصينة . 

هل بلغ دارا مقصده وهل وجد ضالته من خلال الفرص والطرق التي سعى إليها برجله او زرعتها الاقدار في طريقه ؟ ذلك ما سنعرفه من خلال هذا السفر الروحاني الديني الثقافي العميق . 

وقد جاءت الرواية  في 408   صفحة ،وهي العمل الروائي الثاني لطبيب الأسنان عقيل الموسوي بعد اريامهمر نامة الصادرة عام 2017 عن دار الفارابي البيروتية ، عقيل الموسوي كاتب يشق طريقه بقوة واحتراف واقتدار نحو عالم الرواية ، وهي جديرة بالترشح والادراج ضمن قائمة جائزة بوكر العربية .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة