عن رحيل الفنان عبدالاله عرب : عصمت الموسوي .
رحل عن عالمنا الشهر الماضي فنان الخط العربي والتشكيل الفني عبدالإله العرب، زميل مرحلة الدراسة في قاهرة السبعينات التقيته في شقة شقيقي الفنان التشكيلي عباس الموسوي، كانوا مجموعة من الفنانيين يدرسون الفنون وهندسة الديكور والخط وغيره ايام ذروة البعثات والمنح الدراسية المقدمة لأبناء البحرين في مختلف التخصصات ،وكانوا مذ ذلك الوقت يجربون ابداعاتهم وحصيلة خبراتهم الأكاديمية في الرسم والخط والتشكيل ويشاركون بها في المعارض الفنية في القاهرة .

الطالب الهادئ الوقور الذي يتوارى خجلا حين يعبر عن نفسه روى لنا انه وصل إلى قاعة المحاضرة ذات يوم مبكرا قبل غيره في اول اسبوع دراسي له في منتصف السبعينات فقام بخط عدة كلمات على اللوحة، حين وصل الأستاذ والطلبة انبهروا بالمستوى الفني الرفيع الذي يمتلكه هذا الطالب الوافد القادم من البحرين ، طلب منه أستاذه في الأيام التالية  ان يحل مكانه في غيابه ، صار الطالب استاذا على زملائه في الشهر الأول للعام الدراسي ،نال لاحقا استحقاق الجمهورية للطلاب الاوائل من الرئيس السابق أنور السادات في دبلوم الخط العربي ، اما شيخ الخطاطين العرب السيد إبراهيم فقد وصفه بأنه واحد من اهم الخطاطين الشباب الذين مروا على تاريخ معهد الخط العربي ،وقد ونشأت بينهما صداقة عميقة امتدت طويلا ،تتلمذ عبدالاله في القاهرة ايضا على يد مجموعة من كبار الخطاطين واساتذة الزخرفة والتذهيب والمتخصصين في خط المصاحف ،وتعرف خلال دراسته في مصر على النماذج الخطية المختلفة لكبار الخطاطين العرب والاتراك على مختلف العصور ، كما اقتنى العديد من الكتب والكراسات والمجلدات التصويرية المهمة في هذا المجال .  

قصة عبدالاله مع الخط بدأت حين كان صبيا صغيرا يجوب أحياء المنامة مدفوعا  بنداء غامض لم يجد له تفسيرا ، كان يلتقط قطع الفحم والألوان ويخط الحروف على جدرانها ويكسو مآتمها ولوحاتها واعلامها ، كان في ال19 من عمره حين انبثقت التجربة البرلمانية الاولى في البحرين ،بيد انه كان مشهورا ومعروفا بموهبته الفنية اللافتة فأوكلت اليه هو وستة خطاطين آخرين مهمة خط دستور مملكة البحرين عام 1973 ، بعد عودته من الدراسة في مطلع الثمانينات حصل على وظيفة خطاط ومخرج فني في قوة دفاع البحرين فخط المراسلات الحكومية ومجلة القوة وغيرها ، لاحقا جاءته فرصة اخرى للعمل في منظمة الخليج للاستشارات الصناعية في الدوحة ، اتجه عبدالاله إلى العمل التجاري طوال فترة الثمانينات إذ كان الطلب شديدا على الخطاطين من قبل شركات الاعلان المحلية والاجنبية في أعقاب الرواج الاقتصادي الذي عرفته منطقة الخليج ، وقد راكم عبدالاله  خلال هذه الفترة تجربة فنية ومبلغا ماليا وظفه  لتأسيس أول مدرسة للخط العربي عام 1990 بهدف  احياء الخط العربي والارتقاء به وجعله صنعة وفنا ، وقد استقطبت المدرسة عددا من خطاطي البحرين كما تتلمذ فيها عدة مجموعات من الطلاب البحرينين والعرب والأجانب الراغبين في إتقان حرفة الخط العربي ، بعد المدرسة التي كانت حلم عبدالاله منذ صغره تفرق روادها شيئا فشيئا وانحسر الطلب عليها ما اضطره لاغلاقها .

تفرغ فيما بعد  للمعارض الفنية والرسم والخط والزخرفة الاسلامية والتذهيب والتشكيل ، وكان بارعا في توظيف الحرف العربي في التشكيل ،حصل على اول جائزة تقديرية مرموقة  في تركيا من قبل مركز الابحاث للتاريخ والثقافة والفنون الاسلامية ، واختير كعضو دائم في اللجنة الدولية لفن الخط باسطنبول ، وهكذا عرف الفنان اقليما ودوليا ،وطارت شهرته واينعت تجربته فتلقى المزيد من العروض للمشاركات في المعارض الفنية المختلفة خطا وتشكيلا وتصميما وزخرفة .

بعد الرسم على الورق والاختام وطوابع البريد ، وفي منتصف التسعينات اتجه للرسم والتشكيل على السجاد محققا ابتكارا جديدا وغير مألوف فنيا في بلدنا ، وفي عام 2011 استعانت شركة الندى للازياء والهدايا ببعض اعماله التي تم تحويلها وطبعها على الحرير واستخدامها للوشاحات والازياء الراقية ،وقد لاقت رواجا كبيرا و اضافت بعدا وقيمة فنية لأعماله القديمة ، او المتحصلة على الجوائز .

 ويجمع الفنانون البحرينيون على ان عبدالاله يعد امتدادا لاساتذة الخط العربي الكبار الذين سطروا ابداعتهم في الخط العربي على اختلافه  ،وقد  تلازمت الموهبة مع الدراسة المتخصصة مع الاطلاع الدائم والتجريب إضافة إلى التفرغ التام والممارسة الطويلة الممتزجة بالثقافة والمعرفة الادبية وبتراث الشعر العربي  ، كان الروائي والكاتب حسين المحروس ينوي كتابة سيرة الخطاط عبدالاله إيمانا منه بأهمية هذا الفنان في مسيرة الفن البحريني ،الا انها سيرة تعطلت على اثر مباغتة المرض له  ، حيث فضل الانزواء والعزلة في السنوات الاخيرة قانعا بحياة بعيدة عن التجمعات والاضواء ،رغم  انه كان  يزمع اعداد بحث شامل عن الخط العربي القديم منذ 300 عام في البحرين وخارجها ، وقد جمع مادته وصوره ومستنداته وظل ينتظر الفرصة لإطلاقه 

 ولم يسع عبدالاله عرب لحياة مديدة او طموح مادي كبير وقنع بما تجود عليه مبيعات لوحاته من مردود متقطع وغير ثابت بعد ان اكتسحت التقنيات الالكترونية الحديثة اغلب الفنون  ونافست  فن الخط ، بل وسحبت البساط والرزق من ايدي الفنانين والمحترفين .

الفنان الرقيق الهادئ المثقف الملتزم المخلص لموهبته وعمله وابداعه ظل يقول : لا اريد من من الحياة شيئا سوى قصباتي والواني وسجائري وركن صغير ومريح امارس فيه عملي بهدوء . 

اغرم عبدالاله بالادب العربي الكلاسيكي ، وبالمتنبي وابو نواس والجواهري وابو العلاء المعري ، حتى في ايام مرضه كان الكتاب رفيقه وسلوته ،واذا سئل عن صحته اجاب : تعجبين من سقمي/ صحتي هي العجب ، في اشارة إلى قصيدة  ابو نواس الشهيرة ، حامل الهوى .

وكنا نتمشي مع زميلنا عبدالاله في شوارع القاهرة ، وكان يرصد الأخطاء في اليافطات الاعلانية واسماء المحلات ، يردد ان مصر هي أم الخطاطين العرب فكيف يجورون على الخط العربي ؟ إذ لا يشي يضير هذا الفنان كرؤيته لكلمة عربية معوجة او متجاوزة لاصول الخط العربي الأصيل بكل انواعه.

كثيرة هي الأوسمة والجوائز التي حصل عليها عرب وكان جديرا بها إلا ان انسانيته وحسه الفني الراقي وتعامله الانساني وكرمه الذي بلا حدود يظل عصيا على النسيان ، اهدى عبدالاله العديد من اعماله إلى اصدقائه واهله وزملاؤه وتلامذته وابناءهم ، اشتغل لهم وساعدهم ودربهم وصمم أغلفة كتبهم ويافطات مشاريعهم وبطاقات افراحهم بالمجان وبلا مقابل . 

لم يندم عبدالاله على شيئ في حياته بقدر ما كان نادما وحزينا على اغلاق مدرسة الخط العربي وهي مشروعه وحلمه الذي اشتغل عليه طويلا وتأمل منه الكثير وخرج منه بخسارة مالية ومعنوية  ، وكان يقول : اننا يجب ان نقتدي باليابان التي ما زالت تعتني بالخط الياباني الاصيل وبالأدوات القديمة نفسها باعتباره جزء من تراثها وحضارتها ، توزعت اعمال عبدالاله على عدد من المتاحف العربية في بلدان الخليج ، واهمها لوحة "الحق يعلو" وتكوين الحرف ح "  التي فازت بالمركز الأول  في بينالي القاهرة عام  1988، ثم احتلت مكانا في متحف البحرين الوطني لاحقا .

ان سيرة عبدالاله جديرة بأن توثق من قبل معاصريه ومجايليه وزملاءه ، اما أعماله القديمة والحديثة فلابد وان يحتضنها معرض فني دائم اعترافا بموهبته وتقديرا لجهوده وابداعه في تطوير مهنة الخط العربي الاصيل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة