الحياة بعد قفص كرونا : عصمت الموسوي

اما وقد قاربنا المناعة المجتمعية الآمنة نسبيا بعد ان تمتعت البحرين على مدى شهرين بالمستوى الاخضر المريح على اثر انحسار اعداد المصابين بفيروس كورونا وبلوغنا مستوا عاليا من التطعيمات والبدء بالعودة الى الحياة الطبيعية ،فتحركت الجموع للخروج من اقفاصها ومحاجرها وعزلتها وتوجستها ومخاوفها ، فهذا مقال يلقي الضوء على بعض المتغيرات التي احدثها الفيروس على الحياة الاجتماعية ومزاج الناس واخلاقهم ومسلكيات حياتهم اثناء الجائحة ، فالحياة السابقة التي ألفناها قبل كوفيد والتي بدت كفضاء مفتوح وغير خاضع للحدود والقيود والاحترازات والتباعد الجسدي، تترائى لنا اليوم ربما كحلم يصعب استعادته بالكامل، السجون والحصارات والتضييق والحجر المنزلي الملازم لكوفيد سواء كانت طوعية او قسرية تخلق لدى الانسان طباعا جديدة حتما،اذ يوطد المرء علاقته بنفسه ويألف وحدته ويتكيف مع رغباته الاصلية ويتخلص من " كراكيبه" المادية والذهنية، وقد يرى ما عداها مضيعة للوقت وجالبة للتوتر والاعباء المالية المكلفة ، ألم يكن شعار الازمة لا تخرج من بيتك الا للضرورة، وهو عكس ما يطرحه عالم الاستهلاك ومنطق السوق الذي يقنعك بالخروج والتسكع دونما ضرورة ودونما سبب او غرض او احتياج، وكثيرا ما تساءلت بيني وبين نفسي : اين ذهب اصدقاء ومعارف وزملاء ما قبل كورونا ؟ هل شحت الاحداث والانشطة المجتمعية فانعكس ذلك على التفاعل الاجتماعي وتوارت الصحبة الحميمية والتجمعات الجميلة والاحاديث الشيقة ؟ هل سلبتهم الجائحة الثقة في العالم الذي يعيشون فيه وكرست في انفسهم الوقاية الدائمة والخوف والحرص على صحتهم اولا ومداخيلهم ومواردهم ثانيا بعد ان ذاقوا مرارة العدوى اوالاصابة بالفيروس واكتووا بآثاره وتداعياته  ؟ هل راجعوا علاقاتهم المستقرة والقديمة بعد طول مكوثهم في المنازل فتبين لهم انها ربما علاقات غير ضرورية وغير مجدية لا تحقق نفعا ولا اضافة بل ويسهل الغاءها والاستغناء عنها تماما دون ان تترك اثرا على مسار حياتهم ؟ هل منحتهم الجائحة سببا وجيها للتغيير وللاستدارة نحو مسلكيات حياتية جديدة ومختلفة ؟ هل ألف الناس الحياة الافتراضية والعمل عن بعد والدراسة عن بعد والندوات عن بعد والعلاقات عن بعد ووجدوا فيها  نمطا مريحا ودافعا للاستمرار فيها حتى بعد زوال الجائحة؟ الم يكن الانكفاء والبقاء في البيت (على شاكلة المرضى والمسنين)  اسلم واجدر واقل كلفة صحية واقتصادية، سيما وان الجائحة وتداعياتها كانت شديدة الوطأة على اقتصاد الدولة ومعاش الناس ومصادر ارزاقهم .

ان مما لاشك فيه ان الجائحة القت بظلالها وانعكست على كل جوانب حياتنا وربما من الصعب التكهن بما ستؤول اليه الحياة بعد انتهاءا تماما، اذ لا يزال الوقت مبكرا لطرح هذه الاسئلة حول تلك الطباع والامزجة البشرية التي توارت او اختفت او طوعتها الجائحة، اذ وبالتأكيد سوف تشتعل الرغبات الغريزية الطبيعية سعيا الى الفرح والمرح والتمتع والاختلاط ومعاودة المألوف، كما ستعود الآلة الاعلانية الجبارة لممارسة عملها الازلي والحض على الخروج والاستهلاك وارتياد التجمعات واشغال القاعات والمطارات ودور السينما ومصاحبة المقاهي والسفر والتسوق لتحريك القطاعات الجامدة وملاقاة الجديد وتجريب المغامرة، ان عامين من عمر الجائحة لن تغير عالمنا السعيد بما استقر عليه وما اعتاده ، لكنها بالتأكيد ستخلق انماطا بشرية جديدة ونوعية وذات مزاج مختلف مع ذواتها وعلائقها بالاخر وبالاشياء ،وكثيرون يؤكدون انهم استعادوا سكينتهم وذواتهم المضيعة بعد عاصفة كورونا متأملين في حياة مختلفة قبل ان يجرفهم التيار ويقذفهم نحو ضفاف جديدة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة