متصلون ومنفصلون :  عصمت الموسوي

اول مسج يصلني في الصباح الباكر على هاتفي الجوال من عاملة المنزل في بيتي تسألني " ماذا نطبخ اليوم ؟ قبلها كانت تطرق باب غرفتي او تنتظر حضوري على مائدة الافطار لتطرح علي السؤال ، وكنت ارى طلتها واسمع صوتها واعرف مزاجها ، هذه المرأة الاسيوية التي حضرت الى بيتي ذات يوم قبل خمس سنوات نسيت كل التعليمات والتدريب والاتيكيت وكل الخبرة المنزلية التي تعلمتها واتقنتها في السابق ،وسارت هي الاخرى في ركاب عالم  التواصل الرقمي ، ولم تعد ترى غضاضة في مراسلة مخدومتها بالواتس اب بلا تحفظ او اكتراث .

ولقد وجد احد مدراء الشركات انه بدأ يفقد الود والتواصل الانساني الحميمي والشخصي بينه وبين مرؤسيه نتيجة اجتياح الواقع الرقمي الافتراضي على مجريات عمل الشركة وتكريسها في اعقاب جائحة كورونا والعمل عن بعد ، فقرر تخصيص يوم في الاسبوع للتعرف على فريقه عن قرب ،وجها لوجه بعد ان طال البعاد بينه وبينهم فاعترته وحدة المنصب الرفيع ووحدة العزلة الناجمة عن سيادة عالم لا يرى فيه بشرا ولا يسمع فيه صوتا ، اعترف قائلا : زملائي نسيت حتى اشكالهم

في عيد الام الفائت تلقت احدى الامهات رسالة مهنئة وممتنة ومعتذرة على التأخير ، قالت له الام ، تعرف انني اكره الرسائل واحب المكالمات واتوق الى سماع صوتك ،اجابها برسالة مشفوعة بالرموز الجاهزة للاعتذار والورود والنوم والهدوء على هواتفنا الجوالة " معذرة يا امي انا اكتب لك من غرفتي ولا اود ايقاظ زوجتي ".

ذات مرة واثناء انتظاري لدوري لدى احد شركات الاتصالات ، سمعت هذا الحوار بين الزبون والموظف .

الزبون : اود ان انتقل الى باقة جديدة من الخيارات المطروحة حاليا ، فالفاتورة الحالية مرهقة ماليا بالنسبة لي

الموظف : " كم هي عدد الساعات التي تقضيها على هاتفك الجوال ؟

الزبون  : طول اليوم تقريبا ، لاغادره ابدا ،انه معي في الصحو والمنام وحتى اثناء القيادة وتناول الطعام وغيرها من الانشطة الحياتية ، تستطيع ان تصنفني في عداد المدمنين علق مختتما

 الموظف: ان اي مبلغ  تدفعه لنا ايها الزبون العزيز يعد قليلا قياسا بالخدمة المتواصلة التي تحصل عليها منا ، نحن منحناك الحياة كلها تقريبا .

 ذكرني ذلك بمقطع اغنية شادية الشهيرة : " احنا من غيرك ولا حاجة وناقصنا كام مليون حاجة "

كم من مشترك نسى هاتفه الجوال في موضع ما واستدرك ذلك في وقت متأخر من الليل وراح يركض لاهثا من مكان الى مكان لاستعادته قبل ان يهجع الى فراشه ؟

وكم من صديق زعل لانك لم ترد على رسالته في الحال وفي نفس اللحظة مفترضا انك متسمر على الجهاز 24 ساعة ولا تغادره ابدا ، ومتعمدا تطنيشه

والسؤال هو : هل نحن اليوم اكثر قربا ووصلا وتواصلا وتفاعلا ببعضنا البعض ام اقل ؟  الم نتحول الى بشر آليون يتحركون وفق ايقاع واحد ومتشابه ومتماثل ولا فرادة فيه ؟

الا تختفي المتعة في الادمان ؟ الم تتضاءل النشوة المتحققة من ممارسة الهوايات المحببة والشغف المتعدد والمتنوع بالاشياء امام شغف الجلوس امام الشاشات الواحدة ؟ الم تختفي متعة الجلوس مع ذواتنا ؟ السنا اكثر وحدة مما كنا قبلا رغم عشرات الاصدقاء والمعارف والاباعد الذين يصلون الينا يوميا بالورود والقلوب والاغاني والتهاني والتبريكات ؟

مرضى ومدمنو ومجانين الهواتف سيماهم على وجوههم وامراضهم وعللهم ، عيون ضيقة وجافة ورقاب واكتاف وظهور مجهدة ومشوهة وملكات ومواهب لغوية مرشحة للنسيان والتلاشي .

الحلو والمر والاشغال والانشغال والاحتيال والخلاف والاختلاف كله يجري يوميا بهدوء وصمت عبر برامج التواصل الالكتروني الرقمي او الافتراضي، تواصل لا يرتقى مهما احتدم او مارس اطرافه العنف اللفظي الى الاهانات الجسدية او الضرب، واذا بلغت اشدها انسحب اطرافها او سدوا عليك اوعلى انفسهم منافذ العبور  

ونستر ذواتنا وضيق خلقنا وألمنا وحزننا تحت ستار هذه المسجات الصغيرة المتشابهة التي تقول ولا تقول شيئا .

موصولون ومتباعدون في الان ذاته .

مشغولون ومشتتون معا، نلاحق كل شيئ ولا نذكر اي شيئ

متفاعلون الكترونيا ولكن مقطوعون اجتماعيا

وكثيرون اكتفوا بحياة تنكمش وتتضاءل يوما بعد يوم ، حياة تقوم على استقبال المسجات وارسالها فحسب .

جائحة كورونا قالت لنا ان الحياة والاعمال والتجارة تستمر وان عن بعد ودون الحاجة لأي اجتماع بشري والواتس اثبت لنا ان التحاور والتفاعل ممكن دون الحاجة الى الكلام .

من كان يتصور ان نبلغ يوما كهذا ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة