برنامج احترافي متطور لصحافة متواضعة : عصمت
الموسوي:
في
عام 1985 تلقيت دعوة من السفارة الامريكية في البحرين لحضور برنامج في الصحافة الاحترافية
، الدورة تأتي ضمن ما يسمى ببرنامج الزائر الدولي ، وهو واحد من برامج عديدة
تقدمها وزارة الخارجية الامريكية للمهنيين والمثقفين والفنانين في مختلف المجالات
السياسية والاقتصادية والاجتماعية في شتى انحاء العالم ، علمت لاحقا ان عدد
البحرينين الحاصلين عليه ناهزوا ال 600 شخص .
كانت واشنطن حين وصلتها في شهر نوفمبر تخلع
رداء الخريف استعداد للشتاء ، يسمونه هنا موسم تغيير الالوان .
تلقينا المحاضرات على يد احد الصحفيين السابقين الذي ترك المهنة وتفرغ هو
واثنين من زملائه لتأسيس مركز الصحافة العالمي " وهو مؤسسة غير ربحية تهدف
الى تأهيل وتمكين الصحفيين في دول العالم الثالث التي تعاني من صحافة فقيرة او
بدائية ، وقد كانت لنا لقاءات ونقاشات مع عدد من رؤساء تحرير ومحرري كبريات الصحف
الامريكية في واشنطن ونيويروك ، كما شاركنا في احدى الصباحات في حضور المؤتمر الصحفي
للبيت الابيض اليومي الذي يتيح للصحافة الامريكية والعالمية الاطلاع على اخر المستجدات
من وجهة نظر عاصمة القرار وتلقي اسئلة الصحفيين والاجابة عليها ، لقد كنا هناك
للاستماع فقط دون مشاركة في طرح الاسئلة .
على
ان اجمل ما في الدورة هو لقاءنا مع الكاتب الشهير وود ورد الصحفي الاستقصائي في
صحيفة الواشنطن بوست الذي حقق مع زميله كارل برنستين في قضية ووترجيت التي تسببت
في استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة ، الصحيفة حصلت على جائزة بوليتزر في الصحافة ،والتحقيق
الاستقصائي صار كتابا شهيرا حمل عنوان " رجال حول الرئيس " ، وتحول
لاحقا الى فيلم سينمائي عرض عام 1974 ، ويعد واحد من اهم افلام السينما العالمية .
وقد شاهدنا الفيلم في حضور الكاتب ،تلى ذلك
جلسة نقاش بيننا وبينه حول ظروف وملابسات فضيحة ووترجيت القصة الصحفية الاشهر في
تاريخ الصحافة والتي منحت الكاتب شهرة عالية، وقبل ان نودعه سألته : ماذا في جعبتك
الان فقال ،اخبروني انتم ماذا لديكم
ان
منطقتكم الساخنة تعيش عددا من الحروب والازمات التي هي بيئة خصبة للمواضيع والقصص الاستقصائية
، اختتم ضاحكا : " القصص كلها لديكم "
كانت المنطقة وقتها تعيش لهيب عدد من الحروب
،كالحرب الايرانية العراقية والحرب الاهلية في لبنان والحرب في افغانسان
،تميزت الدورة بالتنظيم والدقة والاتقان والحرفية
واعتبرناها خير معين لنا نحن الذين نتعاطى مع صحافة شبه بدائية وخاضعة للسلطة
الرسمية وذات ترتيب متدن جدا على خارطة الحريات الصحفية قياسا بما هو عليه الحال
في امريكا واوروبا .
كانت دورة الزائر الدولي مهنية وترمي الى
تمكين الصحفي وتعظيم امكاناته ومنحه التدريب المهني والتقني الذي يمهد طريقه للتطوروالنمو
والابداع بالاستفادة من تجارب الاخرين حوله وتطبيقها في بلده ، وقد استغرقت اربع
اسابيع ، اثنين منها اختص بالنظري والثالث عملي ،وتضمن زيارات ميدانية ولقاءات ،
ثم اسبوع رابع خصص لجولة سياحية ، رافقنا فيها ثلاثة مترجمين عرب ممن يعملون في
الولايات المتحدة وذلك لتسهيل مهمة من لا يجيد الانجليزية .
وبعض ممن التقيناهم في البرنامج كانوا من المتطوعين
اوالمتقاعدين واصحاب الخبرة والاختصاص في مجال عملهم ، ويتعاونون مع وزارة
الخارجية في المجالات التي تتطلبها كل دورة او برنامج تدريبي،
كان من ضمن الدورة زيارة خاصة لعائلات
امريكية في بيوتهم والاطلاع على نمط حياتهم الاسرية والمعيشية .
وبين كل يومين او ثلاثة نجلس صباحا مع منظمي الدورة
والمشرفين عليها لتهيئتنا للايام المقبلة وتنبيهنا للاخطاء التي صدرت منا او منهم ،
وسماع وجهات نظرنا حول سير البرامج وفيما اذا كنا في حالة رضا عنه او نود تغييره
وبأي كيفية ، وهل هو طويل ام قصير ؟ واين هي الجوانب الناقصة فيه كي يتم تلافيها
مستقبلا .وقد لفتنا انتباههم الى سعر الدورة وكيف ان المبلغ المخصص لنا اقتصادي
جدا وبالكاد يكفينا ، ويذهب ثلاثة ارباعه لاجرة الفندق والباقي للاكل والمواصلات وغيرها
، فاجابوا "انتم هنا لستم في رحلة ترفيه وتسوق "
واختتمت منسقة البرنامج بالقول : بالمناسبة : اشتكى
منظفو غرفكم بانكم اغفلتم دفع البقشيش او الاكرامية لهم ، لعلمكم هذه المبالغ
مستحقة لهؤلاء الموظفين ،انها جزء من اجرهم وليس لكم الحق في منعها ،ومن الغد انتم
ملزمون بدفع ما يقارب اربع دولارات يوميا كأكرامية واجبة وليست منه او تفضل ،واخرى
عن الايام السابقة .
ثانيا: ابلغتنا ادارة الفندق ان احدكم ترك الفندق لسبب
ما وذهب للاقامة في بيت احد اقاربه هنا في واشنطن ، لا مانع لدينا في ذلك شريطة ان
يعيد لنا جميع مبالغ الاجرة الفندقية المستحقة لنا .
حين عدت كتبت مقالا في صحيفة اخبار الخليج عن
الدورة وتطرقت الى بعض الجوانب المهمة فيها وكيف ان بلدا كالولايات المتحدة تستفيد
من كل مجال ناجح انجزته وابدعت فيه ، ولا يصبح ماضيا منسيا ولا يترك على الرف بل
يتحول الى ورش عمل ودورات مهنية تعود بالنفع على اصحابها لاحقا
كان الاسبوع الاخير لنا سياحيا بامتياز اذ
زرنا بعض المدن الامريكية واتنهينا في منتجع والت ديزني حيث شاهدنا الابداع الامريكي
والتقنيات المتطورة في مجال الانتاج الزاعي والصناعي والتجاري والفضائي في مركز "ايبكوت
" الحديقة الترفيهية المصغرة للعالم التي تاخذك الى المستقبل وافاق التقدم
التكنولوجي وعلوم الفضاء ، كما تطلعك على ثقافات الشعوب وعاداتها
عدت من امريكا وانا في غاية الانبهار بالبرنامج
الملهم وكيف ان دورة مكثفة من 3 اسبايع في الصحافة الاحترافية تعادل شهادة جامعية
من 4 سنوات ، ادركت لاحقا ما يقال عن ادوات امريكا الناعمة لغزو العالم والتي لا
تقل اثرا وسطوة عن ادواتها الاخرى الحربية والعسكرية والسياسية او الداعائية ، وكثير من مشاهداتي والتدريب الذي تلقيته تسرب في
قصصي الخبرية ومقالاتي وتقاريري ولعل اهمها هو كيفية استنباط المادة الصحفية
والتنبوء بها ،اما فكرة الزائر الدولي ذات
الطابع التبادلي والتي لم تخلو من اهداف دعائية فاعتقد ان بامكان اي دولة او مؤسسة
او حتى افراد لديهم انجاز ما في اي قطاع ان يحتذوا به ويقيموا برامج مماثلة للداخل والخارج لتنمية التواصل
الانساني والمعرفي وتبادل الخبرات والتجارب بين الشعوب في شتى المجالات ، نمى الى
علمي ان لدى اليابان وسنغافورة وبريطانيا دورات مماثلة توقف اغلبها بعد الازمة
المالية في 2008 .
قبل السفر تواصلت معناا السيدة هناء السعيد
المشرفة على البرنامج وقتها وسالتنا عن الشخصيات او البرامج التي نود رؤيتها خارج
البرنامج المعد سلفا والذي قرأت تفاصيله وانا في الطائرة ،اذ يحدد باليوم والساعة
والدقيقة المكان ووسيلة المواصلات ورقم محطة القطار وعناوين الشخصيات التي
سنلتقيها والمراكز التي سنزورها والمطاعم التي سنتناول وجباتنا فيها
كنا عشرة صحافيين متقاربين في الاعمار والخبرات
نسبيا ، من البحرين واليمن والاردن وفلسطين والسودان والمغرب وتونس ولبنان وراس
الخيمة والكويت ، وقد عقدت صداقة امتدت الى يومنا هذا مع بعض رفقاء البرنامج كالصحفية
الفلسطينية سناء العالول رئيسة تحرير جريدة القدس العربي والصحفي فؤاد عبول مدير
تحرير صحيفة الانوار اللبنانية .
لكن ،لماذا استحضر برنامجا عمره 35 عاما ؟ انني
لغاية اليوم اعتبره احد افضل الرحلات والمشاركات الخارجية التي حظيت بها في عملي
الصحفي . كنت وقتها صغيرة السن وحديثة العهد بالعمل الصحفي لذا فقد اختزنت في
اوراقي وذاكرتي الكثير من هذه التجربة الثرية الملهمة التي طبقت الكثير منها في
عملي الصحفي
لاحقا ،بعد 11 سبتمبر ستتغير الدنيا وسيوسم
الشرق الاوسط بالارهاب ، وسأزور واشنطن في مارس عام 2002 اي بعد ستة اشهر من تلك الواقعة
" المشئومة على العرب" ضمن جولة
صحفية لعدد من الصحفيين الخليجيين ، في برنامج شبه دعائي للسياسة الامريكية في
المنطقة والعلاقة بالعرب والمسلمين بعد 11 سبتمبر ،لكن تلك قصة اخرى سيأتي اوانها
ذات يوم .
تعليقات
إرسال تعليق