شيئ من تجربتي في بي بي سي : عصمت الموسوي

في عدة دقائق توظفت مراسلة للقسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي ، جاء المذيع الراحل سامي حداد ينشد مراسلا للمحطة العريقة، اديت اختبارا بسيطا وسريعا امام حداد في صيف عام 1988 لاختبار اللغة والصوت ،وفي اليوم الثاني اعددت تقريرا عن خطة شركة الاتصالات بتلكو للتطوير المستقبلي ،وفي المساء ضبطت موجة الاذاعة ورحت انتظر سماع  التقرير عند الساعة السابعة مساء، هل يوجد صحفي ينتمي لصحافة متواضعة كصحافة الثمانينات لا يفرح لانضمامه لمحطة عالمية ؟

اول كتيب ارشادي تتعلمه وتتدرب عليه في هذه المحطة بوصفك مراسلا خارجيا هو كيفية التغطية الآمنة من بلدك وكيف تقي نفسك من الاخطار عبر الالتزام بالاطر والمعايير الاعلامية للصحافة الحرة واهمية تحري الدقة والمعلومة الصحيحة خصوصا في البيئات غير الصديقة ل الديموقراطية والمشاركة الشعبية ، وقد مارست العمل في جو آمن ومريح نسبيا لعدة سنوات قبل اندلاع احداث التسعينات وما تضمنته من عرائض واحتجاجات وعنف وقتل وحرائق وتفجيرات .

ان قصتي مع اذاعة لندن ذات اتصال وثيق باحداث التسعيناتـ ، حيث ومن البداية اوردت البي بي سي في تقاريرها الاولى ان المطلب الاساسي للحركة هو العودة للبرلمان المنحل وتفعيل دستور 1973 المعطل استنادا الى العرائض الشعبية التي اطلقها النشطاء السياسيون في البحرين بعد غزو الكويت وانطلاق اصوات ومبادرات عديدة في البحرين والخليج تطالب بالاصلاح السياسي واشراك الشعوب في اتخاذ القرر ،وذلك قبل ان ينجرف الشارع الى العنف لاحقا فأقع انا "المراسلة" بين مطرقة الحدث الصاخب وما يتطلبه من تقارير شمولية ومتوازنة وحذرة وبين سندان الرقابة الصارمة والاعلام الرسمي ذو البعد الواحد ، وقد كانت اذاعة لندن مثلها مثل بقية وسائل الاعلام العالمية وقتها على تواصل مع المعارضة في الخارج والاهالي في الداخلي وتستقي اخبارها من جميع المصادر

اما الجانب الرسمي فبعد طول صمت ونكران ظهر للاعلام الداخلي الخارجي واصفا المحتجين بانهم دعاة عنف وتخريب وفتنة وانقلاب على السلطة وليس دعاة ديموقراطية ، وان وراء الحركة  تدخلات خارجية ، وان البحرين تنعم حاليا بالامان والاستقرار والتنمية الاقتصادية ،وان مجالس الشيوخ مفتوحة للشعب ، ولا تحتاج الى البرلمان او "البرطمان " كما كان يسمى لدى كتاب السلطة .

القصة الخبرية المتعددة الابعاد والاراء ظلت عصية وبعيدة المنال في صحافة واعلام ما بعد حل البرلمان في 1975 في البحرين ، فقد هيمن قانون امن الدولة واصبحت الصحافة مقيدة ومحاصرة وتضيق ذرعا بالرأي الاخر ضاربة بعرض الحائط معايير ومقاييس واطر التغطية الاعلامية الصحيحة ، وخضع جميع مراسلو المحطات والصحف الخارجية كل من موقعه - وانا من ضمنهم - لمضايقات ومساءلات وانذارات ما حملهم على التخلي عن وظائفهم طوعا او قسرا .

تقاضيت 20 جنيها استرلينيا عن كل تقرير ثم كبر مع توالي السنوات واصبح 40 جنيها ، تعجب وزير الاعلام الراحل طارق المؤيد حين اخبرته بالمبلغ الذي اتقاضاه ، قال : هل يستاهل كل هذه الانذارات والاستدعاءات والتقريع الذي تتلقينه مني ؟

قلت له : يستاهل اذا كنت تعمل في اذاعة البي بي سي .

حراك التسعينات الذي شهدته وغطيت اهم احداثه تمت تغطيته بالكامل من قبل الاعلام الامني وحده ،وما على الصحف الا نشر المانشيتات والقصص الخبرية القادمة من مصدر واحد ، ولهذا فقد سعت وزارة الاعلام الى ضم المراسلين جمعيهم الى دائرة الاعلام الحكومي وحمله على تبني السردية الحكومية للحدث ، في حين تم اعتبار المراسلين المستقلين صوتا نشازا ومزعجا في هذه المعزوفة ،فلم يتوفروا على المعلومات ولم يسمح لهم بحضور المؤتمرات الصحفية او المحاكمات العسكرية المغلقة ،بل ان مجرد الالتقاء بأهالي المحكومين اوالمتهمين او محامييهم تعده الحكومة عملا عدائيا يستوجب العقاب .

تريد وزارة الاعلام تقارير احادية الجانب ورسمية كالتي تبثها اجهزة الدولة من اذاعة وتلفزيون ووكالة انباء وصحف شبه رسمية ،اما الرأي الاخر فلا تعترف به في اعرافها وصحافتها تماما كما يحدث الان في صحافتنا الورقية واجهزتنا الرسمية التي انصرف عنها الجمهور الى الصحافة الرقمية والتي ارتضت جميعها تسويد صفحاتها بالمادة التحريرية الجاهزة التي تصلها من مركز الاتصال الوطني ،واقول ان محنة المراسل الخارجي تعرض لها كل المراسلين الذين عملوا في صحف ووكالات انباء عالمية في ذلك الوقت ،حيث جرى اغلاق مكاتبهم وتسريح اعمالهم بعد واثناء احداث التسعينات مثل مكتب رويترز والالمانية والفرنسية والاسوشيتد برس، ولعلنا نذكر بهذه المناسبة زميلتنا اوتا مراسلة الالمانية التي جاءت الاوامر المفاجئة باغلاق مكتبها وتسليم مفاتيح بيتها ما اضطرها لبيع اغراضها في 24 ساعة فقط لانها بثت تقريرا اوردت فيه تصريحا لحركة احرار البحرين المعارضة في لندن .

في العام 1996 كانت البحرين تحتضن قمة مجلس التعاون الخليجي ،واستضافت عددا من مراسلي الصحف والاذاعات الاجانب ، وفي صباح احد ايام القمة ترك مراسل اذاعة لندن الفندق حيث تجرى القمة واستقل تاكسيا وذهب الى القرى لاجراء استطلاع حول الاحداث السياسية ، وقبل ان يصل الى الفندق وقبل ان يبث تقريره ، كان امرا امنيا قد صدر بطرده .

واحتفظ في ارشيفي برسالة بعثتها وزارة الخارجية البحرينية عام 1996 الى السفير البريطاني في البحرين تشكو فيه من التغطية الاعلامية للقسم العربي بالاذاعة حول البحرين والتي تعتبرها غير دقيقة ومنحازة و"معادية وجاء في رد البي بي سي ان المحطة تفتح ابوابها لسماع لكل الاراء على اختلافها وتتفاعل ايجابا مع النقد الموجه لها وتسعى لتصحيح اخطاءها وتقويم مسارها ، واشارت في ردها على الرسالة الى عدة تقارير بثتها عن البحرين ذات طابع حيادي ومتوازن لكن حكومة البحرين او وزراة الاعلام حسب قولها هي التي ترفض المشاركة في البرامج والاخبار والتعليقات بأي رأي رسمي مما يتيح للمعارضة أخذ الحصة الاكبر في التغطية ، كانت سياسة الحكومة في البداية تقوم على نكران وجود ازمة اساسا، ثم عندما اعترفت بوجودها لاحقا كان الشارع قد اشتعل وخرج عن السيطرة فتم وسم الحركة بوصفها ارهابية انقلابية تخريبية مدعومة من الخارج .

خلال انتظاري في وزارة الاعلام لاخذ حصتي من التوبيخ والتقريع والتوجيه، كان هناك مراسلون اخرون غيري ينتظرون دورهم بعد ان اصبحت احداث التسعينات مادة خصبة ومثيرة في الصحافة ووكالات الانباء الاجنبية والعالمية والبرلمان الاوربي والانجليزي ولدى المنظمات الحقوقية والعفو الدولية المنددة بالاعتقالات والمحاكمات العسكرية ، اما اعلامنا المحلي فقد ظل مجرد متلقي للتقارير الرسمية الامنية فقط ، "شاهد ماشفاش حاجة"  ، تم احكام السيطرة في الداخل ،لكن لم يستطع المرحوم طارق ولا من جاء بعده السيطرة على الاعلام الخارجي

اذاعة لندن ناطقة باسم المصالح البريطانية والغربية لاشك في ذلك ، بيد ان انحيازها لا يمنع ولم يمنع يوما من رفد التقارير والقصص الاخبارية والتحليلات السياسية بالرأي الاخر المخالف ،فهذا هو المبدا الاساسي والجوهري في الاعلام ، وليس بامكان اي وسيلة اعلامية حقيقية ان تحيد عنه

وكانت تقاريري الحذرة المدروسة والمنتقاة بحرفية وعناية تتراوح بين رضا وزارة الاعلام مرة وغضب الجانب الشعبي مرة اخرى ، فيوم يراها البعض تميل صوب الحكومة ويوم اخر يحدث العكس، ان كلمات مثل " حوار " او " وبرلمان " او "اصلاحات سياسية ودستورية " كانت شبه محظورة وممنوعة من التداول تماما ، ذلك ان الجانب السلمي في الاحداث تم طمسه تماما بينما تم ابراز عنف الشارع والحرائق والتفجيرات ،ومع الوقت نسي الناس الاولى وتكرست الصورة الثانية .

و اذا علت موجة الاحتجاجات والتوتر اقترح على الاذاعة التزام الصمت مؤثرة السلامة على عمري الى ان تهدأ الموجة ، وفي الغالب تلجأ الاذاعة الى اجراء المقابلات مع النشطاء السياسيين ومع الناس ومع اهالي السجناء والمعتقلين وطلاب واكاديمي الجامعة والمحامين وزعماء الحركة وقادة العرائض الشعبية وغيرها او تبعث مراسلا خاصا كما حدث عام 1997 حين وصل الى البلد صحفيا من البي بي سي اجرى استطلاعا شاملا والتقى عناصر من الجانب الرسمي والمعارض وانجز فيلما تلفزيونيا بثه تلفزيون بي بي سي عربي في ذلك الوقت ولم يرق للحكومة .

في مطلع عام 1998 زار رئيس القسم العربي جيمون ماكليلين البحرين وتحدث الى وزير الاعلام فأخبره الاخير ان تقارير مراسلتكم "عصمت الموسوي " لا تعجبنا ونقترح تعيين مراسل او مراسلة اخرى وفق اختيارنا .

وقد تركت الاذاعة عام 1998 واختير الاعلامي الراحل محمد الشروقي خلفا لي ثم اعلاميا اخر ، وكلاهما كانا موظفان في وزارة الاعلام فالتزما بالخط الرسمي في التغطية ، وبدت المادة الاعلامية التي ينقلونها صورة طبق الاصل لما يبثه اعلام الحكومة ، لاحقا استعاضت المحطة عن فكرة المراسل المحلي فعينت صحفيا بريطانيا متفرغا يقيم في دبي ويغطي اخبار منطقة الخليج ومن ضمنها البحرين .

واعتبر فترة عملي في البي بي سي من اصعب ما مررت به من تجارب وفي مرحلة سياسية حساسة وشديد التعقيد ، وقد اجتهدت لنقل الاحداث بأمانة ملتزمة المعايير المهنية والحياد واحترام الرأي الاخر ، وانجزت الى حد ما اختراقا في منظومة العتمة الاعلامية المحكمة في ذلك الوقت ، اعتز بهذه التجربة واتمنى ان يسعفني الوقت والحماس لتوثيقها في كتاب اشمل ،فقد انطوت على العديد من القصص والمفارقات والتي لا يسعها هذا المقال الموجز .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة