اخبار صحفية عصية على النسيان : عصمت الموسوي

في مطلع حياتي المهنية وحين استعرض تجربتي الصحفية في قسم الاخبار اجد ان ثمة اخبار كتبتها وحققت فيها ولكنها ظلت عالقة في ذهني وتأبى الرحيل والنسيان ، واود ان استعرض اليوم بعضا منها لاعرج على نطاق الخبر الصحفي اليوم وامكاناته الهائلة .

في نهاية ديسمبر من عام 1958 مطلع ذهبت للتحقيق في ملابسات غرق ثلاثة صيادين في قرية دار كليب، وصلت القرية باكرا في يوم شتوي بارد، ركنت سيارتي بالقرب من احد المنازل وطرقت الباب الذي كان مفتوحا ،القيت السلام وناديت فلم اجد جوابا، خرجت الى البيت الثاني والثالث ، كانت البيوت صغيرة ومتراصة واغلبها مفتوح او موارب وكلها خالية، انشغل الرجال في المقبرة بدفن الصيادين، اما النساء والاطفال فلا ادري اين كانوا ؟ حين عادوا الى بيوتهم بعد ساعة او ساعتين من الانتظار، دعوني للافطار معهم ،واحتفوا بي وتعاونوا معي وامدوني بكل ما يمتلكون من معلومات حول الواقعة وضحاياها ،حيث خرج الثلاثة الذين كانوا في الثلاثين من اعمارهم من بحر المالكية في يوم عاصف وشديد الرياح فاختفوا في البحر ، استخدمت خفر السواحل الطائرات للبحث عنهم على مدى ايام ، ويعتقد ان قاربهم ربما اصطدم بصخور كبيرة فانقلب وغرقوا جميعا وعثر على جثامينهم ،لاحقا  ، وقد تواصل معي الاهالي وطرحوا علي العديد من المشكلات والاقتراحات المتعلقة بقريتهم ، وبودي القول ان اخبارا على هذه الشاكلة  تصل الى الصحافة في العادة من دائرة الاعلام الامني جاهزة، اما بقية التغطية ذات الابعاد الاخرى فهي ما يجتهد الصحفي لتحصيله والبناء عليه والتوسع فيه .

الخبر الثاني وقع في شهر مارس من عام 1996 ، فقد تعرض المواطن جواد خليل لحادث سرقة معتاد ، دخل السارق الى  شقة الاسكان بالسنابس في غياب العائلة والتقط صندوق الذهب وفر هاربا ،ابلغت العائلة الشرطة التي حققت في الموضوع ولم تصل الى معرفة السارق، لكن بعد اسبوع اتصل السارق بصاحب الشقة قائلا " سأعيد لك المصوغات التي سرقتها شريطة ان تمنحني شقتك بعد اخلاءها وقبل تسليمها لوزارة الاسكان "، كان من المعتاد في ذلك الوقت ان يتبادل الناس مفاتيح الشقق الاسكانية فيما بينهم اذا كانوا من اصحاب الطلبات المسجلة لدى الوزارة، وكانت شقة الاسكان وقتها مجرد سكن وقتي يفترض به الا يتجاوز العدة سنوات، لكن الزيادة الهائلة في اعداد السكان وارتفاع قوائم طالبي الوحدات السكنية مع طول امد الانتظار جعل الناس تتهافت على الشقق وتقيم فيها سنوات طويلة جدا .

 بعد اسبوع اتصل السارق مجددا وقال : قد تركت المصوغات الذهبية داخل كيس قماش على صندوق انابيب الغاز التابع لكم خارج العمارة، واردف : " انتم اناس طيبون، وانا كنت اراقبكم منذ فترة وطوال الوقت كان ضميري يؤنبني، لكني اتمنى ان تسلموني مفتاح شقتكم بعد ترككم لها"  وكتبنا في الخبر " هذا اول سارق يعيد مسروقاته ولكن بشرط " ، لاحقا وظفت القصة في كتابة مقال حول شقة الاسكان التي اصبحت بيت العمر، وصدقت نبوئتي اذ ان المواطن المسروق ترك الشقة بعد 10 سنوات من الواقعة .وتحولت الشقق المؤجرة وقتيا الى نظام التمليك الدائم.

الخبر الثالث حدث للمواطن جعفر علي عام 98 ، اذ تعرض بيته للسرقة ثلاث مرات في ظرف اسبوع واحد في منطقة سند ، في المرتين لم يبلغ الشرطة ،وفي الثالثة فعل لكن وقبل الوصول الى مركز الشرطة تدارك شيئ ما وقفل راجعا الى بيته، اتصل بالصحافة قائلا : "ان يسرق المرء مرة او مرتين فذلك قد يكون امرا طبيعيا ، لكن ان يسرق ثلاث مرات فالاجدر به ان يفتش عن نفسه لا عن السارق " ، الجملة الهمتني لكتابة عنوان مثير للخبر اتبعته بمقال وسمته بعنوان " ابحث عن ذاتك المضيعة " .

واتذكر في هذا السياق تلك الاخبار التي كان يتداولها الزملاء في صالة التحرير يوميا بعد العودة من رحلة صيد الاخبار والمواضيع، وكنا نتحدث حولها ونتفاعل معها او قد نضحك لغرابتها وطرافتها، حين اتابع التغطيات الخبرية اليوم اجدها ذات نسق واحد، تخلو من اي متابعة لاحقة،  تبدو للقارئ بوصفها وجبة " سناك"  خفيفة وغير مشبعة وناقصة ومختزلة ، وكأن الصحفي يريد نشرها سريعا والتخلص منها ونسيانها للابد، مع ان الخبر مفتوح على كل الاحتمالات والاضافات والاستنتاجات، والواقع ان تعليقات القراء العاديين على الاخبارالالكترونية تنطوي على كثير من الذكاء والفطنة والجرأة والاسئلة المستفيضة المكملة للخبر والباعثة على نشوء بذور اخبار جديدة مستنبتة من رحم الخبر ذاته، الصحفي اليوم لا تعوزه الاخبار المبثوثة ارضا وفضاءا الكترونيا شاسعا لا تحده حدود ،بل يعوزه الشغف الصحفي المهم والضروري لانتاج الخبر الشيق الممتع المشبع المكتمل، الخبرالعصي على النسيان .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة