الراهب : عصمت الموسوي
خلال مسيرتي الصحفية
التقيت وجوها وامكنة واختبرت مواقف وعشت تجارب عديدة ومتنوعة، وهي وان بدت قديمة
وتنتمي لزمنها الا انني اجدها اليوم جديرة بالتدوين والتوثيق لما تحمله من دلالات
ومعاني ومفارقات، وسوف استعرض تباعا عددا منها في هذه الزاوية .
قبل عدة اعوام التقيت مدرسا للغة الانجليزية يعمل في احدى وزرات الدولة، هذا الرجل البريطاني المولود
في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي لأم المانية واب بريطاني، وجد نفسه وحيدا
وفقيرا ولا يجد لقمة يومه ابان الحرب العالمية الثانية، اخذته
امه الى كنيسة قريبة كي يعتاش منها ويدرس
ويعمل ، اختار الرهبنة مكرها ثم اصبحت الملاذ الوحيد له وانعكست على نمط حياته كلها
لاحقا، وفي الكنيسة تحصل على شهادة
الدكتوراه في علم الاديان المقارنة، بعدها ترك العمل الكنسي وقرر الرحيل عن بلده ،
سافر الى الهند وتركيا استقر به الحال في البحرين، عاش في بيته وحيدا مع عدد من
القطط التي رعاها وانفق عليها تغذية
ورعاية وتطبيبا ، ظل مضربا عن الزواج، واذا صادف والتقى امرأة اعجبت به او اعجب
بها قال جملته المعهودة : انها زوجة مناسبة لي تماما لكن شكرا جزيلا ، والشكر هنا
يعني ان الامر محسوم بالنسبة له ،لا زواج ولا اولاد ولا ارتباطات ولا مسؤوليات
شاقة تكبد المرء الاعباء التي لا لزوم لها، انها اشياء جيدة ولكن شكرا جزيلا
" ، يقولها حول تغيير سيارته او اثاث بيته او اي شي على هذه الشاكلة.
وقد ساعدته جنسيته وكفاءته في التدريس وصحته وغذاءه
المضبوط والمدروس و شبكة علاقاته في مجال التعليم في الحصول على سنوات عمل اضافية،
حين استنفذها جميعها وولج الخامسة والسبعين صار يعطي الدروس في بيته، لم يدخل
المشفى الا نادرا لكنه اجرى عدة عمليات تجميلية وشد لوجهه مضطرا لاخفاء عمق التجاعيد
التي كست وجهه ولكي يكون مقبولا للتدريس على حد قوله ، " ان كفاءتي وعقلي
ونفسيتي افضل حالا من وجهي " وفي كل عام كان يراجع وصيته مع اصدقاءه ويؤكد
لهم ان سائقه سيبلغ الجميع من الاصدقاء بأمر الوفاة كي يتخذوا اللازم .
لماذا اخترت هذا
القس الطاعن في السن لافرد له مقالا ؟ لقد وجدت ان كل خياراته في الحياة بدت صائبة
ومطابقة ومنسجمة مع اهدافه وعمره ووضعه الصحي وامكاناته.
هذا الرجل العميق الثقافة عاش وحيدا وسعيدا وخفيفا
وممتنا للعمر الذي بلغه، وكان على جانب كبير من الاستقلالية والانضباط والترتيب
والنظافة، وكان الحديث معه ممتعا وشيقا وينطوي على تجارب وخبرات حياتيه صعبة وجديرة
بالتأمل، وقد لازمه الحس الفكاهي والنظرة المتفائلة للدنيا في كل مرحلة زمنية، وكان
يجمع الاصدقاء حوله في مناسبات عدة ك
الكريسماس والسنة الجديدة ويوم مولده .
تبدو الحياة حين نتأملها في اي مرحلة زمنية
من العمر، تبدو كرحلة قابلة لكل
الاحتمالات غير المتوقعة حتى وان اعتقد المرء انه مستعد لكل صروفها ، لقد اعتقد
القس المضرب عن الزواج انه سيقضي عمره في البحرين وسيدفن فيها عازبا وسينال
اصدقاءه المقربين جزءا من تركته بعد رحيله، لكن صدر الامر بانهاء عقد عمله لتجازوه
السن القانونية ولم تفلح الوساطات في استبقاءه فترة اطول، مع ذلك كان مستعدا للتغيير،
وهكذا حزم حقائبه ووزع حاجياته وقططه واثاث بيته المتواضع ، اشترى بيتا في الهند
وتزوج ارملة على الورق فقط ، لا يقيم معها ولا تقيم معه ، انما لشرعنة ملكيته
للبيت .
ترك اثرا طيبا لدى تلامذته واصدقاءه، ولا يزال الكثير منهم يستعيد عباراته اللطيفة وحكاياته
الفكاهية .
ولانه مدرسا اللغة الانجايزية فقد كان يقيٌم
البشر حوله تبعا لمعرفتهم بالانجليزية كانت لديه جملة واحدة مألوفة حول اي شخص يلتقيه
: اذا اعجب بشخص قال عنه " يتحدث الانجليزية بطلاقة " واذا لم يعجبه ، زم شفتيه وقطب وجهه
وعبر باستياء عن لغته الانجليزية الضعيفة على حد قوله .
قال ان نمط حياته الصحي ومزاجه الرائق سيؤهله للعيش
مديدا وهكذا كان ،ترك البحرين قبل سنوات ،احتفل بعيد ميلاد الثالث والتسعين قبل
شهر ،ولا يزال الاصدقاء يتلقون منه بطاقات الاعياد السنوية الكترونيا، كان يردد
دوما " ان كل يوم نعيشه بعد عمر الستين هو هدية من السماء وجدير بمن تجاوزوا
الستين ان يثَمنوا ويحتفلوا بهذه الايام المهداة لهم بلا مقابل
تعليقات
إرسال تعليق