عن معلماتنا الفلسطينيات: عصمت الموسوي 

تروي الاستاذة التربوية امينة الصالح في كتابها" بين اروقة التعليم هكذا رأيت" الصادر عن دار فراديس للنشر والتوزيع 2022 عن ذكرياتها مع المعلمات اللاتي كان لهن تأثير حقيقي على مسيرتها في التمدرس في سنوات المرحلة الابتدائية واستطعن بالكاريزما اللاتي تمتعن بها وبأسلوبهن  الممتع والمشوق ان يتربعن على شغاف عقلها ووجدانها ،، تذكر منهن معلمة مادة اللغة العربية فهيمة محمد دويغر ،معلمة الرياضيات بدرية كاظم زمان ، ثم الفلسطينية الاستاذة نيللي ابراهيم سعادة القادمة من بيرزيت ، تصفها الكاتبة بأنها " مبتسمة على الدوام ، محبوبة بين المعلمات والتلميذات ، وذات أساليب تدريسية وتشويقية تجبر على الإنصات طوال الحصة دون ملل ، وقد نسجت معها امينة علاقة طيبة تواصلت إلى المرحلة الثانوية ، بل ان امينة طلبت من والدها زيارة نيللي في منزلها بفلسطين ،وبالفعل حقق الوالد مطلب امينة وقامت العائلة بزيارة نيللي حيث استقبلتهم في فندق خالها في مدينة القدس عام 1961.

وأكتب هذا المقال تعقيبا على ندوة المنتدى الفكري الحادي عشر للمنبر التقدمي التقدمي التي أقيمت في 21 من الشهر الماضي حول "  شعوب الخليج العربي والقضية الفلسطينية " مستذكرة تلك الأيام من بواكير عمرنا المدرسي عندما التقينا اول مرة بفلسطين عبر كراساتنا ومناهجنا وتوجه بلدنا السياسي ،عن معلماتنا الفلسطينيات، اللاتي زرعن في وجداننا حب فلسطين والانتصار لها ، بل والتعصب لكل ما يمت اليها بصلة ، كنا صغارا وكانت فلسطين كبيرة ، وستكبرالقضية معنا وستشكل وعينا السياسي وضميرما الانساني وبوصلتنا نحو التحرر والنضال من اجل الحق ، وستكون بلدنا على شاكلة كل المنطقة العربية وقادتها وشعوبها ومؤسساتها مناصرة لها وداعمة لحق العودة ومناهضة لكل أشكال التطبيع منذ النكبة والى ما قبل ماسمي بالاتفاق الإبراهيمي في العام 2021  

في مرحلة الابتدائي في مدرسة السلمانية دخلت إلى الفصل معلمة اللغة العربية ، شقراء ،نحيفة وطويلة وجميلة ،عرفت نفسها بالقول ، اسمي بشرى ابراهيم عمارة ،انا من حيفا وامي من غزة ،هاجر اهلي إلى غزة وهناك ولدت وترعرت" 

 درس فلسطين الأول الحي تلقيناه على يد بشرى ،  منذ ذلك الوقت صارت فلسطين وقضيتها تحتل جزءا كبيرا من الحصة المدرسية ، بل اننا كنا نستحثها لمواصلة الحديث على حساب الدرس الاساسي ، هذه الفسحة رسخت في اذهاننا الطرية كالنقش في الحجر ، تركت بشرى البحرين لاحقا وذهبت إلى مصر لاستكمال تعليمها الجامعي ، انتهت معلمة في الكويت ، تزوجت وانجبت 5 ابناء تخرجوا من اعرق الجامعات ونالو اعلى الشهادات العلمية كشأن اغلب الفلسطينيين ، وظلت بشرى على تواصل مع بعض المعلمات والطالبات ولا تزال، كانت بشرى معبودة الطالبات، ننتظر العام الدراسي الجديد لملاقاتها ،بل ان بعضنا يطلب تغيير الفصل من اجل عيونها .


شريفة محي الدين مدرسة الجغرافيا في مرحلة الاعدادي  في مدرسة عائشة أم المؤمنين ، كانت شابة صغيرة ومخطوبة وتستعد للزواج في الصيف المقبل ،وفي أحد  الأيام تلقت استدعاء من ادارة المدرسة ، برقية عاجلة لشريفة تفيد بمقتل واستشهاد خطيبها في فلسطين ، الصرخة التي أطلقتها في تلك اللحظة سمعت في أرجاء المدرسة ،غادرت في اليوم التالي ولم تعد.

وهل ننسى ليلى خالد معلمة اللغة العربية في الإعدادي إلتى لم ترتدي طول العام سوى اللون الاسود ، الصامتة الحزينة التي من النادر ان نجد ابتسامة على محياها ، وكيف شرحت لنا قصيدة حلم الذكرى للشاعرة الفلسطينية المشهورة فدوى طوقان" والتي كتبتها بعد النكبة الفلسطينية عام 1948 .

" خلال دخان علا واستدار رأيت الحمى خربة ماحلة 

على العتبات تدب هوام ،وتعبر قافلة قافلة ، 

،وشاهدت أشلاء قومي هنا وهناك على طرق السابلة ،

عيون مفقأة ووجوه غزى الترب الوانها القاحلة ،

وكان هناك وراء الدخان قطيع تشتت في كل بيد 

،قطيع وديع بقية قومي ،فهذا شريد وهذا طريد

 ،تضللهم بالعراء الخيام وقد اخلدوا في هدوء بليد . 


 في ذكرى وعد بلفور الثاني من نوفمبر، عن هذا اليوم المشؤوم كما تشير وتذكر مقرراتنا ومناهجنا الدراسية ، كنا نستفتح صباحاتنا بسماع الخطب والاشعار عبر الإذاعة المدرسية ،وكنا نرى الدموع والحزن والأسى على وجوه معلماتنا ، نتفاعل مع مصابهن ونلتمس العذر لغيابهن وسفرهن المفاجئ 

هؤلاء المعلمات اللاتي احببناهن وتلقين التعليم والتربية والتهذيب وحب فلسطين على ايديهن،لا زلن يستوطن ذاكرتنا الحية،  إذ من خلالهن ادركنا نحن الصغيرات  وفي هذا العمر المبكر ان فلسطين كأي وطن عزيز وغال جدير بالتضحة والنضال من اجله ،وطن يستحق الحياة كما يقول محمود درويش .

أرض البدايات…

 صارت تسمى فلسطين .أم النهايات…

 كانت تسمى فلسطين…


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة