ذات يوم صحفي : عصمت الموسوي 

تداول مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا فيلم فيديو قديم  يوثق حكاية راجت في البحرين عام 1982 وملخصها ان مواطنا بحرينيا ظهرت في رأسه قرونا كقرون الثور ، وانه ذهب إلى مستشفى السلمانية للعلاج فتقاطر المواطنون على المستشفى لمشاهدته ، ظلت الحكاية تتفاعل مع الناس لفترة زمنية بين مصدق ومكذب ومشكك إلى ان تلاشت بعد ان تبين زيفها ،وقد اجريت تحقيقا صحفيا وقتها ،تناولت فيه ظاهرة تصديق الخرافات والخزعبلات في مجتمعنا ،وفي التحقيق فند الأطباء والمختصين هذه الحادثة عدا رجل دين قال" ان الظاهرة ممكنة الحدوث مثلها مثل كل المعجزات " .

 صحافة ابو قرون " من الطبيعي ان تظهر في ذلك الوقت ، حيث يهيمن قانون امن الدولة على مجمل الحياة والانشطة الاجتماعية والسياسية  ،كانت الصحافة فقيرة جدا وحذرة اكثر من اللازم ،وتبحث كل يوم عن اخبار ومواد متاحة ومسموح بها وسط قانون الصحافة والنشر المجحف والقاسي ، قانون الممنوعات كما كنا نسميه وقتها ، وكثير منا نحن زملاء المهنة كنا نتعرض للتقريع وللاستدعاء لدى  وزير الإعلام على مقال رأي او خبر فات من الرقابة الصحفية او الرقابة عند الطباعة ،اذ عرفت صحافة الثمانينات رقيبا في المطبعة ايضا .

 نشرت في العام 1983 رسالة بريد تتحدث عن عدد العمالة الآسيوية الكبير والمتصاعد  في البلد وفق احصاء اجرته سفارة اجنبية ،وقد نشرت الاحصائية في الجريدة الاجنبية جلف ديلي نيوز ، لكن نشرها في الجريدة العربية اخبار الخليج اثار حفيظة الوزير ما استدعى نقلي إلى قسم آخر كعقاب مخفف عن الفصل النهائي ، لقد كان ذلك اختبارا لنا جميعا نحن الصحفيين الذين سنخسر وظائفنا في عام 2011 على خلفية المشاركة في بالتظاهر او الكتابة او تسجيل علامات الاعجاب او الرفض على مواقع التواصل الاجتماعي ، هشاشة المهنة الصحافية ودربها الشائك والخشية من مزالقها وخسارة مصدر الرزق المتأتي منها كانت تحتم على الكثيرين البحث طوال الوقت عن وظائف اكثر استقرارا وامانا ، كنا نجلس على مقاعدها وعيوننا تبحث عن مكان آخر وفرصة أفضل.. في العام 2008 ، اخبرنا الزميل الراحل هشام عدوان انه تلقى عرضا سخيا للعمل لدى جهة حكومية ، ولاننا نجلس  متقابلين ومتقاربين جميعا في صالة التحرير ،سألنا : ما رأيكم ؟ لم يتوقع هشام ان الاغلبية هنأته وتمنت له حياة وظيفية سعيدة ومستقرة بدلا من مهنة الشعبطة كما كنا نسميها في ذلك الوقت ، " المتشعبط هو مرتاد الحافلة والممسك بأحر اعمدتها ، فلا هو جالس ولا هو مستقر"   بعد ثلاث سنوات من تلك الحادثة سيتبين لنا كم هي مهنة " شعبطة" وبهدلة .

الأهم من ذلك انها مهنة بلا مستقبل على الاطلاق ،" فحبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود ، من يدخل حجرتها ، من يطلب يدها ، من يدنو من سور حديقتها ،من حاول فك ضفائرها يا ولدي مفقود مفقود مفقود" تلك مواصفات الصحافة والحبيبة العصية على الامتلاك كما يصف شاعرنا الراحل نزار قباني .

خمسة مؤشرات تعتمدها منظمة مراسلون بلا حدود لتقييم صحافة اي بلد وهي متوفرة ومعلنة على موقع المنظمة ، ،مؤشر حرية الصحافة تعده المنظمة حجر الزاوية إذ تضمن عبره حق الصحفيين في الوصول إلى المعلومات والتعبير عن ارائهم ونشر أفكارهم بحرية تامة دون قيد او تدخل من الحكومة ، مع ضمان حمايتهم من أي اعتداء او تهديد بل ومحاسبة كل من يرتكب جرائم ضد الصحافة ، كما تؤكد على استقلال وسائل الإعلام ضمن بيئة تعددية وتنوع إعلامي لضمان وصول المعلومات للجمهور من مصادر متعددة وغيرها ، اليوم لدينا صحافة ورقية والكترونية تستمد جميعا مصادرها من مركز الإعلام الواحد الموحد ،وهو شيئ لم تعرفه حتى صحافة أمن  الدولة في الثمانينات، ،لذا تجيء البحرين في  مراتب متدنية على هذا المقياس عاما بعد عام ، سجلت هذا العام المرتبة 173 من أصل 180 دولة . أحد أسباب هذا التردي هو قانون الصحافة الذي تجري مناقشته هذه الأيام والمعروض على البرلمان بعد غياب طويل امتد لأكثر من 22 عاما، وهو لا يختلف كثيرا عن القديم ، وتضمن ايضا التفسيرات المتعددة و الملتبسة وابقى على ذلك الجسر الدائم  مع قانون العقوبات الذي يجرم الكلمة وحرية التعبير

غادرت الجماهير الصحف الورقية واتجهت إلى الإعلام البديل تلتمس المعلومة الصحيحة والموثقة من هنا وهناك وسط سيل جارف من الأخبار والتقارير الحقيقية والمزيفة  والتي لا يعرف كذبها من صدقها ، ما احرانا ان نقيم قانونا متطورا يتلائم مع الزمن الحر لإعادة الاعتبار والموثوقية لصحافتنا الأصلية،وان نخلق البيئة الإعلامية المتنوعة لملء الفراغ الكبير الذي تعانيه الصحف بفعل الرقابة المشددة والمقيدة على حرية الرأي والتعبير ، وقديما قال الفقهاء: تتغير الأحكام بتغير الأزمان .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة